تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مثلاً في هذا العصر كما هو الحال بصدد حرف القاف، حيث يبلغ سبعة أوجه، تتراوح في مجال داخل الفم يمتد من الهمزة إلى الكاف، وهذا معهود في اللهجات المصرية والشامية والعراقية والخليجية والبدوية ... ولعل الضاد أبرز مثال على هذه الظاهرة من حيث اختلاف نطقها، وذلك بسبب صعوبتها بالنسبة إلى كثير من الحروف. وقد أجمع علماء اللغة على ذلك، وفي عدادهم السيوطي، فقال (9): "الضاد أصعب الحروف في النطق". وهي تنطوي على إشكالية منذ القدم وحتى اليوم على هذا الصعيد، كما شغلت وما زالت تشغل حيزاً واسعاً في دائرة اهتمام الدارسين (10). واختلاط الضاد بالظاء أو تداخلهما عند النطق، بل عند الكتابة أيضاً ظاهرة ملحوظة ومزمنة تجري على أفواه كثير من الناس وعلى أقلامهم. وخبر عمر بن الخطاب في هذا الصدد معروف، حين أتاه رجل وقال له (11): "يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجل ظحى بضبي؟ "، فجعل الضاد من ضحى ظاء، والظاء من ظبي ضاداً. فعجب عمر ومن حضره من ذلك".

ومن هذا القبيل أيضاً التداخل في النطق بين الزاي والسين، وبين السين والصاد، والقاف والكاف، والدال والذال، والتاء والطاء، والحاء والهاء، والزاي والظاء، والسين والشين، والجيم والياء، والميم والنون، والراء واللام ...

وعلى صعيد الاختلاف بين اللغات المتعددة تغدو هذه الظواهر في مقابل ذلك أشد بروزاً، بحيث يتعذر على غير الناطقين بالعربية مثلاً التلفظ بأكثر حروف الحلق وأحرف أخرى غيرها، كالعين والحاء والغين والخاء، فضلاً عن الجيم والصاد والقاف والضاد .... ومع ذلك قد توجد أحرف مشتركة من هذه الحروف الصعبة ضمن لغتين أو أكثر، فالعربية مثلاً تشارك التركية في حرف القاف، كما تشارك الأسبانية في حرف الخاء، إلخ ....

وفي الوقت نفسه ثمة أحرف في لغات عديدة ليس لها وجود في العربية مثل U, E في الفرنسية، ومثل P,V في الفرنسية والإنكليزية. والعرب أيضاً قلما ينطقون هذه الأحرف كأهلها إلا بعد دربة ومران. وهكذا الشأن في سائر اللغات. وهنا لا بد من الاحتراز والملاحظة بأن قضية الصعوبة في النطق تبقى نسبية وليست مطلقة، وهي أكثر اطراداً في بعض الحروف اللثوية وحروف الحلق ...

ومن الطبيعي في هذا الصدد أن يتساءل المرء عن سبب وجود أحرف في لغة ما، وعدم وجود ما يقابلها في لغات أخرى .. ؟ والإجابة عن ذلك أو بعض ذلك ينطوي عليها ما سبق ذكره مجملاً، وهو أن نطق الحروف لم يتم على ألسنة البشر في سالف ا لأزمان جملة واحدة، والحال نفسه عند الأطفال أيضاً. ومرد ذلك بطبيعة الحال إلى مدى السهولة والصعوبة في نطق بعض الحروف دون بعضها الآخر، وهذا أمر معهود أيضاً داخل حروف أية لغة، حيث يكثر شعراء العربية مثلاً من النظم على روي الميم والراء واللام والنون ... ، على حين ينأون عن روي القوافي الأخرى، كالثاء والظاء والغين والخاء. وقد أحسن قدماء العرب ولا سيما العروضيون تصنيف هذه القوافي حين جعلوها في قسمين: القوافي الذلل، والقوافي النفر، وكأنها الخيل التي يسهل امتطاء بعضها، ويصعب امتطاء بعضها الآخر ...

لقد تبدت ملامح نظرية السهولة والصعوبة في نطق الحروف لدى علماء العربية قديماً ومنهم الخليل وسيبويه والأصمعي والجاحظ وابن جني والسيوطي ... ثم مضى الدارسون المعاصرون على هذا الغرار يؤكدونها ويحللونها. وممن نادوا بهذه النظرية كورتيوس ويتني Curtius Whitney إذ رأى أن المرء بطبيعته يجنح إلى السهولة وإلى الاقتصاد في الجهد، وذلك بصورة لا شعورية (12). وهذا ما حدث لعدد من الحروف العربية عبر عصور مديدة، إذ تطورت من الصعوبة إلى السهولة، وهكذا فإن جملة من الألفاظ كالكلام والكاف والباء والميم والسين حافظت على طبيعتها لأنها لا تحتاج إلى مجهود عضلي خاص كسواها داخل الفم، كالراء والظاء والغين والقاف والحاء ... وغيرها من حيث صعوبة نطقها، على تفاوت فيما بينها في مدى هذه الصعوبة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير