ويعيد الزمخشري فيما بعد، تناول ظاهرة الإدغام بين بعض حروف العربية فيقول (49): "والراء لا تدغم إلا في مثلها كقوله تعالى: (واذكر ربك (، وهو يؤكد ما أورده سلفه سيبويه بقوله أيضاً: "إدغام الراء في اللام جائز في مثل لام هل وبل، ويتفاوت جوازه إلى حسن، وهو إدغامها في الراء، وإلى قبيح، وهو إدغامها في النون ... ".
وإذا كان هذا حال الراء واللام بصدد ما بينهما من "تداخل" فثمة جانب آخر يضارعه تجاه هذين الحرفين فيما يمكن أن نسميه في المقال "التبادل"، حيث نقع في لغة العرب على جوانب من كلامهم المسموع الذي ترد خلاله ألفاظ كثيرة رويت على وجهين، وجه بالراء ووجه باللام، من ذلك قولهم: رمقه ولمقه أي لحظه ونظر إليه، وربكه ولبكه أي خلطه.
ويقال امرأة جلبّانة وجربانة وهي الصخابة السيئة الخلق. ويقال عود متقطل ومتقطر أي مقطوع. وقال أبو عبيدة: يقال سهم أملط وأمرط إذا لم يكن عليه ريش، وقد تملّط ريشه وتمرّط. ويقال جلمه وجرمه إذا قطعه. قال أبو علي: ومنه سمي الجلم الذي يؤخذ به الشَّعر. والتلاتل والتراتر: الهزاهز .... " إلخ.
كلها أصوات اتحدت في الصفة وفي الدلالة، ولكنها اختلفت في نسبة وضوحها في السمع. وهذه الأصوات يحل بعضها محل بعض، كالراء مع اللام، فإن الأولى أوضح في السمع، مع أن كلاً منهما من الأصوات المتوسطة الشبيهة بأصوات اللين" (50).
على أن هذه الظاهرة في اللغة تتطلب منا وقفة متأنية، ففي كتب اللغة والغريب ثنائيات أخرى مغايرة من الألفاظ يتضمن كل منها حرفاً مجانساً بطبيعة صوته لحرف آخر، فقد أورد صاحب الأمالي كلمات كثيرة من هذا القبيل. فبصدد ما تعاقب فيه الفاء والثاء مثلاً يورد ألفاظاً عديدة مثل (51): "الدفينة والدثينة، وفلغ رأسه وثلغ رأسه، والنكاث والنكاف، واللثام واللفام، وانفجر وانثجر، والحثالة والحفالة" إلخ. كما أورد ابن جني أمثلة أخرى في هذا الصدد، منها (52): "جدث وجدف، ورجل قح وأعرابية قحة، ورجل كح وأعرابية كحة ...
إن تعاقب بعض الكلمات مثلاً، مرة بالثاء ومرة بالفاء بمعنى واحد أمر فيه نظر، فالمخرجان متقاربان في الفم واختلاط جرسهما معهود في الأذن، ومثل هذا كثير في ألفاظ أخرى مثل القحط والكحط، قهر وكهر، وردم ولدم. وقد يحق لنا بعد ذلك أن نشك أيضاً في صحة بعض هذه المرويات اللغوية، ونعزو هذه الظاهرة إلى آثار الجمع الأولي، والاعتباطي لمفردات العربية، حين كان العلماء ينسخون ما يتفوه به الأعراب سماعاً. وآية ذلك ما ذكره ابن جني (53) إذ قال: "إنهم قد اجمعوا في الجمع (جدث) على أجداث، ولم يقولوا أجداف. كذلك روي عن أبي زيد أن العرب تقول أعرابي قح وأعرابية قحة، وحكي في جمع قح أقحاح ولم نسمعهم قالوا أكحاح". وقد يدل هذا النص على أن كلمة جدف وكلمة كح ليستا راسختين في كلام العرب. وفي مثل هذه الأحوال كثيراً ما تختلط الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فلا تستطيع الأذن أحياناً أن تمايز بينهما، هذا إذا سلمنا بسلامة أسماع الرواة الجامعين، ومنهم من تقدمت بهم السن (54) غير أن هذا ليس مطرداً إلا في أحوال بعينها، فمثل هذه الازدواجية أو التعددية في اللفظ الواحد بسبب تقارب مخارج الحروف ناجم في أحيان كثيرة عن تعدد اللهجات لتعدد القبائل في مثل: قشط وكشط، فقريش تقول: "كشطت عنه جلده، وقيس وتميم وأسد تقول قشطت (55)، وفي القرآن الكريم (56): (وإذا السماء كشطت (، وفي مصحف ابن مسعود "قُشطت .. " وكتب العربية حافلة بمثل هذه الثنائيات اللفظية مثل أرخ وورخ، أو أكد ووكد ... ".
د ـ التواشج الصوتي بين الراء واللام:
من الظواهر التي تتناولها الدراسات اللغوية في مجال اللسانيات والصوتيات في كلام البشر ظاهرة التبادل أو التناوب بين بعض الحروف بسبب تقارب مخارجها الصوتية، من مثل ما يكون بين الزاي والسين بوجه عام. ويكثر ذلك أيضاً في العربية بين الحاء والهاء، وبين القاف والكاف وبين الضاد والظاء وبين الراء واللام ... ، ولا سيما ضمن حروف الذلق.
ففي كلام العرب ربد ولبد أي أقام، وركد ولكد أي لزم وسكن، ورمز ولمز أي أشار، وجرف وجلف أي قذف وأبعد، والخيزري والخيزلى ... (57) ومن هذا القبيل ما أورده أبو علي القالي في كتابه الأمالي في فقرة مطولة حول ما تعاقبت فيه اللام والراء.
(1) الخصائص، 1/ 33، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952.
¥