تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد طلع الخليل وسيبويه بمعلومة صوتية مهمة تناولها من بعدهما كثير من فقهاء العربية بالتعليق، ولم يقبلها بعضهم على إطلاقها ([41])، وهي أنه "كلما تباعدت مخارج الحروف ازدادت حسناً". فمع أن الراء واللام من زمرة صوتية واحدة، إلا أنهما متمايزتان في سماتهما الفونولوجية. "فالراء صوت غير جانبي، على حين أن اللام جانبية. كما أن الراء تقابل اللام على الصعيد الفونولوجي ([42]). وهنا تكمن صعوبة نطقها كيلا تنطق لاماً، وينطبق الأمر نفسه على أحرف أخرى، من مثل ما يكون في صوت القاف المجاور للكاف، وصوت الحاء المجاور للهاء، وصوت الصاد المجاور للسين، والطاء المجاور للتاء ... ، بحيث يصعب على الكثيرين أيضاً، ولا سيما غير الناطقين بالعربية أن ينطقوها، فيجنحون بها إلى الأسهل، وإذ ذاك تخرج القاف من أفواههم معدولة إلى الكاف، والحاء إلى الهاء والصاد إلى السين والطاء إلى التاء ... ومرد هذه الصعوبة في تمييز نطق الراء من اللام إلى عجز المتكلم عن التحكم الدقيق في هذا الحيز الضيق من الفم. وعندئذ لا يصدر الصوت المطلوب من مخرجه بل من جواره فيخرج لاماً، شأن الماء يسيل نحو الصعيد الأخفض.

كل هذا يعيدنا إلى وجود هذه الظاهرة لدى الطفل بوجه عام، وفي أي أمة من الأمم، حين لا يستطيع نطق الراء فتخرج من فمه لاماً ... "واللام لا تحتاج إلى جهد عضلي كبير" ([43])، مثل قوله (نْهل، ولدة، لاديو، صولة، دفتل، عصفول). ويقصد: نهر، وردة، راديو، صورة، دفتر، عصفور ...

وما تقدم ذكره ينقلنا إلى أهل الصين صغاراً وكباراً، حيث لا وجود في لغتهم لحرف الراء أصلاً. ولما كان الإنسان يكتسب لغته، بحروفها وأدائها، من محيطه الخارجي بطريق السماع، بدءاً من الأم والأسرة ثم سائر الناس، فإنه من الطبيعي أن لا يستطيع الصيني نطق الراء في سائر اللغات الأخرى. وقد أتيح لي وأنا أدرس العربية في بكين وشنغهاي ([44])، أن ألمس هذه الظاهرة الطريفة والفريدة من كثب، حين كان الطلاب والطالبات يقرؤون النصوص العربية. ويقلبون كل راءات الكلمات فيها لامات. وكانوا يلفظون الأسماء عمر، رشيد، مريم ... هكذا: (عمل، لشيد، مليم ... )، كما لفظوا "الجمهورية العربية السورية: "الجمهولية العلبية السولية". وقد دأبت على محاولة تمكين أولئك الدارسين من نطق الراء من خلال كلمات عديدة اخترتها، ولكن معظمهم أخفق في ذلك، على حين استطاع بعضهم النطق المنشود بعد لأي.

فهل بوسعنا، في ضوء ما تقدم أن نقول إن ما يقارب خمس سكان العالم، أي أكثر من ألف مليون من المتكلمين باللغة الصينية هم لثغان ([45])؟.

ح ـ لثغة واصل بن عطاء:

وعلى صعيد التراث العربي الحافل يواجهنا في هذا الصدد نموذج إنساني فريد عرف بلثغة أخرى، ولكنها مجهولة لا تعرف ماهيتها ولا يعرف نوعها، وهي تبعاً لذلك مغايرة للمعهود من حيث خفاؤها على الناس. إنها لثغة واصل بن عطاء المعتزلي. والجاحظ يقف وقفة متأنية عند ظاهرة اللثغة في الراء، ولا سيما عند واصل، وذلك في مواضع متعددة من كتابه "البيان والتبيين". إنه لا يبين طبيعة هذه اللثغة ولكنه يصفها في كل مرة بصفات سلبية حادة كأن يقول ([46]): "وكان واصل بن عطاء قبيح اللثغة شنيعها. وكان طويل العنق جداً ([47]) .... ".

وبوسعنا القول إنه كان لواصل أثر واضح في تسليط الضوء لغوياً واجتماعياً على هذه الظاهرة الصوتية في الكلام. وابن عطاء هو من هو بين رجال عصره منزلة وفضلاً ([48]). كان فطناً ذكياً راجح العقل حاضر البديهة، واسع الحيلة، كما كان خطيباً بليغاً. لكنه كان مصاباً بلثغة قبيحة تقع له في حرف الراء. فهاله الأمر، وعزم على أن يروض نفسه على مجانبة الراء والتغلب على هذا العيب واجتثاث الداء من أصله. وقد أوضح لنا الجاحظ حالته تجاه هذه العلة ببيانه المشرق فقال ([49]):

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير