واللثغة الأخرى هي نطق الراء (ياء) كما ذكر الجاحظ، بحيث تلفظ (مية) بدلاً من مرة. وهي أشيع من السابقة، وتكثر عند الأطفال. وفيها يقول سيبويه ([29]): "وهي من موضع اللام، وقريبة من الياء. ألا ترى أن الألثغ يجعلها ياء ... ". وهي أقل قبحاً، في رأينا، من سابقتها الظاء والذال، ويعاب أيضاً من يلثغ بها ...
وأما نطق الراء غيناً، أي في مثل قول الجاحظ (مغة) بدلاً من مرة في بيت عمر بن أبي ربيعة أيضاً، فهي لثغة شائعة، وتكثر بطبيعة الحال عند الأطفال، لصعوبة نطق الراء لديهم أيضاً". والراء عند الطفل يغلب أن تكون لهوية، وهذا سبب قربها من الغين لتقارب مخرجيهما ([30]). وعندئذ يحدث اللثغ. وعلى الصعيد الذوقي، ومن المنظور الجمالي يتراءى لنا أن هذه اللثغة الماثلة بصوت الغين أقل قبحاً من سائر اللثغات في الراء. والجاحظ يقرر ذلك بقوله ([31]): "واللثغة في الراء تكون بالغين، والذال والياء. والغين أقلها قبحاً، وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم". ويبدو أن هذه اللثغة أقل تمكناً من لسان الألثغ، بحيث يستطيع تفاديها أحياناً بقدر من الرياضة والمران. وإلى ذلك يشير الجاحظ أيضاً فيضرب مثلاً محمد بن شبيب المتكلم الذي كانت لثغته بالغين، "فإذا حمل على نفسه وقوم لسانه، أخرج الراء" ([32]).
وقد تكون لثغة الراء الغين أكثر دوراً على ألسنة البنات مما هي على ألسنة البنين. وهي في أية حال تنطوي على قدر من الملاحة، ولا سيما إذا صدرت عن المرأة الشابة أو الحسناء، وعندئذ تغدو سائغة محببة. وقد ذكر الجاحظ أن العرب ([33]): "كانوا يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة". وبوسعنا أن نستشهد على ذلك بأبيات لأبي نواس أيضاً بصدد اللثغة المحببة بالراء، حيث قال في فتاة موصلية لثغاء ([34]):
لقد فتنتني لثغة موصلية = رمتني في تيار بحر هوى اللثغ
تقول وقد قبلت واضح ثغرها = وكان الذي أهوى ونلت الذي أبغي
(تغفق، فشغب الخمغ من كغم غيقتي = يزيدك عند الشغب سكغاً على سكغ)
وحقيقة البيت الأخير الذي لفظت الفتاة راءاته ملثوغة:
ترفق، فشرب الخمر من كرم ريقتي = يزيدك عند الشرب سكراً على سكر
وخير الدين الأسدي في كلامه على حرف الراء ضمن اللهجات العربية المعاصرة، فطن إلى هذه الظاهرة الصوتية التي استملحها أبو نواس في كلام فتاته الموصلية، ثم ذهب إلى "أن لهجة الموصل تلفظ الراء غيناً، فتقول في صورة (صوغة)، تشبه في هذا لهجة باريس" ([35]). غير أن هذا الحكم في رأينا يقوم على التعميم، وربما ينطبق على بعض كلام الموصليين السالفين. ولا نعتقد أن هذه اللثغة تشكل ظاهرة شاملة لسكان الموصل ([36]). يضاف إلى ذلك أنه لم يسمع عن العرب قديماً من خلال لهجاتهم، أن قرية أو قبيلة كانت لديها لثغة تعم أفرادها، إذ اللثغ ظاهر فردية يصاب بها المرء بسبب علة فيزيولوجية عارضة تعتري جهاز النطق لديه.
ومهما يكن من أمر فإن اللثغة بأنواعها لم تكن محببة عند العرب، وآية ذلك كما بينا أنها معدودة من عيوب النطق. وهذا أيضاً هو الشأن لديهم بصدد تحول الراء إلى غين. لقد عمد ابن الوردي إلى ذم بعض القضاة، معرّضاً بجهلهم أو فسادهم، وأحياناً بلثغتهم التي تشين فصاحتهم، فقال ([37]): "راؤه غين، ومنطقه شين. إذا سبّح الرب، ما تدري أسبّح أو سب". ثم أنشد هذه الأبيات:
الألثغ الطاغي تولى القضا = عدمت هذا الألثغ الطاغي
إن سبّح الرب حكى سبه = فقال سبحانك يا (باغي)
يريد: يا باري
ولابن الوردي أبيات أخرى عديدة تجعله من الشعراء المكثرين إلى حد ما في هذا الصدد ([38])، ومنها أيضاً وصفه فتى ألثغ أو فتاة لثغاء، على سبيل التفكه، وهو يمهد لأبياته بقوله ([39]): قلت في ألثغ يجعل الراء غيناً، ويصح بالوجهين:
ألثغ بالراء زار بيتي = فجاءنا حاسد وأصغى
قلت أفق فالحسود برّا = قال أفق فالحسود بغّا ([40])
وهو يروي يا باري.
ويفضي بنا ما تقدم من الكلام على أنواع اللثغة في الراء إلى نوع مشهور وشائع على الألسنة، وهو نطقها لاماً.
¥