تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم. وأدخلنا جنات النعيم. أقول ما به أعظكم، وأستعتب الله لي ولكم.

ي ـ أصداء الخطبة:

كان لخطبة واصل بن عطاء، فيما تروي لنا كتب الأدب والأخبار، دوي في أوساط الشعراء والمتأدبين، وتعدت هؤلاء إلى سائر الناس. وكان ذلك اليوم بمنزلة المباراة بين خطباء العصر، وقد تفوق واصل عليهم جميعاً. وكما قال الجاحظ ([52]): "كان واصل مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء، كانت مع ذلك أطول من خطبهم".

وما يجدر قوله إن أهمية خطبة واصل التي جانب فيها الراء لا تنبع من مضمونها ومعطياتها المعرفية والدينية وما إلى ذلك. إنها على هذا الصعيد خطبة كسائر الخطب المعهودة في عصر الراشدين والأمويين، وفيها شبه كبير بخطبتي عمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك ([53]) ... غير أن أهميتها تتجلى في بنيتها اللفظية وسمتها الأسلوبية، وكونها مرتجلة تدل على اقتدار صاحبها في امتلاك ناصية اللغة، وتمكنه من معطياتها التعبيرية، من قوة بديهة وحسن أداء ... وكل ذلك أكسبها قيمة فنية وقيمة تاريخية، بحيث غدت قطعة نثرية بالغة الطرافة والتفرد في الأدب العربي.

وقد نجم عن خطبة واصل كثير من منظوم الكلام ومنثوره، لم يخرج في جملته عن مشاعر الإعجاب والتقدير. من مثل وصف الشاعر صفوان الأنصاري ما حدث في ذلك اليوم المشهود إذ قال من قصيدة ([54]):

فسائل بعبد الله ([55]) في يوم حفله = وذاك مقام لا يشاهده وغد

أقام شبيب وابن صفوان قبله = بقول خطيب لا يجانبه القصد

وقام ابن عيسى ثم قفاه واصل = فأبدع قولاً، ما له في الورى ند

فما نقصته الراء إذ كان قادراً = على تركها، واللفظ مطرد سرد

ففضل عبد الله خطبة واصل = وضوعف في قسم الصِّلات له الشكد ([56])

ويعد بشار بن برد في طليعة المادحين لواصل والمشيدين بنبوغه، وذلك بطبيعة الحال قبل أن يختلف معه في مسائل من صلب عقيدة الإسلام، فانقلب عليه وهجاه. فقد أفعمت نفس بشار إعجاباً بواصل، ونظم أشعاراً عديدة ينوه فيها بفضله ويعلي من بداهته وقدرته على الارتجال، ومفضلاً إياه على أنداده ([57]):

أبا حذيفة، قد أوتيت معجبة = من خطبة بدهت من غير تقدير

تكلفوا القول والأقوام قد حفلوا = وحبروا خطباً ناهيك من خطب

فقام مرتجلاً تغلي بداهته = كمرجل القين لما حف باللهب

وجانب الراء لم يشعر به أحد = قبل التصفح والإغراق في الطلب

وإذا خرجنا من نطاق خطبة واصل إلى دائرة أرحب في حياته، وحرصه المستديم خلالها على مواجهة اللثغة في الراء، بدا لنا مدى اهتمام العديدين بدراسة هذه الظاهرة الصوتية لديه. ومن هذا القبيل قول الجاحظ ([58]): "وكان واصل إذا أراد أن يذكر البُر قال القمح أو الحنطة. والحنطة لغة كوفية، والقمح لغة شامية ... ". وهذا ما قاله أيضاً ضرار بن عمرو شعراً، وبقدر من الزيادة ([59]):

ويجعل البر قمحاً في تصرفه = وجانب الراء حتى احتال للشّعر

ولم يطق مطرا والموت يعجله = فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر

وحدث أن وقعت القطيعة بين ابن عطاء و ابن برد حين "صوّب بشار رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وزعم أن جميع المسلمين كفروا بعد وفاة الرسول r([60]). وعندئذ ضاق واصل ذرعاً به وقال غاضباً ([61]): "أما لهذا الأعمى الملحد المشنَّف، الملقب بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله، وفي يوم حفله". فلم يقل: بشار وابن برد، وقال المشنف بدلاً من المرعث، والملحد بدلاً من الكافر، وقال الغالية بدلاً من المنصورية والمغيرية، (وهما من غلاة الشيعة) .. وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ولم يقل لأرسلت إليه من يبقر بطنه على فراشه ... وبذلك تجنب الراء في كل كلامه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير