تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويبدو أن بعض الشباب كان يطيب لهم أحياناً أن يتحرشوا بابن عطاء بدافع الفضول وبقصد امتحانه أو إحراجه والتندر بعاهته، إذ ليست مجانبة الراء في الكلام بالأمر الهين، ولا سيما أن الراء من أكثر الحروف دوراناً على الألسنة، فكان واصل شديد الحرص على ألا يقع في شركهم. ويروى أن نفراً من هؤلاء دفعوا إليه رقعة ليقرأها عليهم، وفيها ([62]): "أمر أمير الأمراء الكرام أن تحفر بئر على قارعة الطريق فيشرب منها الصادر والوارد". فقرأ واصل على الفور: "حكم حاكم الحكام الفخام أن ينبش جب على جادة الممشى، فيستقي منه الصادي والغادي". وكان واصل إذا أراد أن يقول أعوذ بالله القوي من الشيطان الرجيم، باسم الله الرحمن الرحيم، فإنه يقول: "أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، باسم الله الفاتح المنان".

وكان طبيعياً لدى معاصري واصل بن عطاء أن يجلوه ويكبروا فيه اقتداره ونبوغه، إذ انطوت مشاعرهم تجاهه على مزيج من الإعجاب والاستغراب. وقد عبر أحدهم عن ذلك بتساؤلات تنم على الدهشة والحيرة، إذ قال ([63]): " ... وكيف كان واصل يصنع في العدد، وكيف يصنع بعشرة وعشرين وأربعين؟، وكيف كان يصنع بالقمر والبدر، ويوم الأربعاء، وشهر رمضان. وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الآخرة ورجب ... ". وإذ ذاك تمثل أحد السامعين بقول الشاعر صفوان الأنصاري الذي سبق أن أشاد بنبوغ واصل:

ملقن ملهم فيما يحاوله = جم خواطره جواب آفاق

وكأن الرجل اكتفى بهذا الجواب المقتضب تجاه أسئلة السائل المتلاحقة، مشيراً إلى أن ما انطوى عليه واصل بن عطاء من موهبة كان من قبيل الإلهام، إذ ليس إلى تفسير العبقرية من سبيل.

والحق أن الإمساك بزمام اللغة، وامتلاك ناصية التعبير، مع البداهة والقدرة على الارتجال .... ، كل ذلك لا يستطيعه إلا من كان من أولي العزم. ومن قبل رأى سهل بن هارون ([64]): "أن سياسة البلاغة أشد من البلاغة".

ك ـ موقع لثغة واصل بن اللثغات:

والآن إذا تأملنا في ظاهرة اللثغ عند واصل بن عطاء، ورجعنا قليلاً إلى شعاب هذا البحث تبين لنا أن اللاثغين بمجملهم كانت لثغاتهم معروفة لدى الناس، هذا يلثغ بالسين فيلفظها ثاء، وذاك بالراء فيلفظها غيناً إلخ .... أي أن الحرف البديل المنطوق أو المقابل لدى الألثغ، وهو الثاء أو الغين أو اللام أو الياء ... ، كان معلوماً أيضاً ومسموعاً لدى الآخرين. ولذلك كانت الأحكام متعددة، وأحياناً متفاوتة تجاه اللاثغين واللاثغات، وقد تتراوح بين الاستهجان والاستحسان. وإلى ذلك تشير الأشعار الكثيرة في هذا الصدد على نحو جلي.

وعلى ذلك يواجهنا سؤال ملح تجاه نوع اللثغة التي كانت في فم واصل بن عطاء، هل كانت الراء لديه تنطق لاماً، أو كانت ياء، أو غيناً، أو ظاء .... ؟ إن ما بين أيدينا من معطيات في هذا الشأن ضئيلة، وقلما تسعفنا في تحديد نوع تلك اللثغة. والسبب في ذلك أن ابن عطاء نفسه أسقط الراء أصلاً من كل كلامه، ومن ثم لم يتح لأحد من معاصريه أن يسمع لثغته تلك قط، لحرصه الشديد فيما نقدر على تغييب هذا العيب لديه. وتبعاً لذلك كان من الطبيعي لدى الذين تناولوا أيضاً لثغة واصل في منثورهم ومنظومهم أن يغفلوا هذا الأمر لافتقادهم أحد طرفي المعادلة، فلم يحاولوا تبين ماهية تلك العلة عنده. وهذه حالة خاصة يكاد ينفرد بها واصل بن عطاء دون سائر اللاثغين. وآية ذلك أن جميع الذين خاضوا في هذه القضية، من شعراء وكتاب ومؤلفين، اكتفوا بأن قالوا إن لثغته كانت قبيحة أو مستهجنة. والجاحظ نفسه وصف ذلك بكلمات واضحة وشديدة عندما قال ([65]): "أنه ألثغ فاحش اللثغ ذو هجنة". كما وصف لثغته "بالقبح والشناعة". فهل يعني هذا أن لثغة واصل كانت الأسوأ بين اللثغات المعهودة، وأنه ربما كان ينطق الراء ياء أو ظاء؟ .... ولكن لثغته المفترضة هذه لا تسوغ وصف الجاحظ لها مرات عديدة بأشنع النعوت وأقبحها. وواقع الأمر أن ابن عطاء لم يكن يلثغ في الراء بهذه الصورة ولا بتلك ولا سوى ذلك مما عهدناه من أنواع اللثغات وصورها. وهي اللثغات الأربع في الراء التي تناولها الجاحظ، وهي الياء، والذال والظاء والغين. لقد لاحظ أبو عثمان بفطنته المعهودة أنه أمام لثغة لا كسائر اللثغات، وذلك من عدة وجوه، فرأى أن يفردها بالبحث ويخصها بالقول. فقد مهد لحديثه عن هذه اللثغة الغريبة بكلام

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير