ولمّا كثر الكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام ظهرت فئة من أهل العلم تخصّصوا في علم الرواية وتتبّعوا الأخبار والأسانيد وأحوال الرواة، فسمّوا بالمحدّثين، كما ظهر الفقهاء الذين نمت فيهم ملكة استنباط الأحكام من النصوص والنظر فيها، ومنهم من وفّق للجمع بينهما وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
لذا فإنّ عمل المحدّثين والفقهاء متكامل و مترابط لا يستغني أحدهما عن الآخر وحتّى الفقيه المحدّث لا يستغني عن أقوال من تقدّمه من الفقهاء والمحدّثين، فلا ينفع الاستنباط من نصّ غير ثابت، ولا ثبوت النصّ من غير استنباط.
وقد سار على هذا الدرب أئمّة أهل الأداء فجمعوا بين الرواية والدراية، فاعتنوا بجمع الروايات والقراءات بالنقل المتسلسل مع التثبّت من ثبوتها بعزو ما رووه إلى الرواة بالسند، ثمّ قاموا بهضم جميع ما نقلوه نصاً وتلقّوه أداءً فبيّنوا ووضّحوا وجمعوا مرويّاتهم في كتب على شكل أبواب ومسائل مرتّبة فكانت بدورها سرجاً يُستنار بها، ويُرجع إليها ويُعتمد عليها. فكان اعتناؤهم بجانب ضبط النصوص وعزو الرواية إلى مصدرها بمثابة اعتنائهم بجانب الدراية والتفقّه في مروياتهم.
أمّا الذي لاحظته في هذه السنوات الأخيرة، اعتناء الأكادميين من المتخصصين في علم القراءات بتحقيق التراث القديم أشدّ الاعتناء وبشتّى أساليبه فصارت لديهم ملكة وتجربة في ميدان التحقيق من ضبط المتن وإثبات صحّة الكتاب إلى مصنّفه وغير ذلك. وهذا الاهتمام طغى نوعاً ما على جانب العلمي فظهر نوع من التقصير فيما قد يمكن أن يُحصد من التراث الخصب من فوائد وأحكام تُنمّي الجانب العلمي الذي من أجله وُضعت الكتب والمصنّفات، وهذا بمثابة من يُتعب نفسه في إثبات صحّة الحديث من غير أن يتفقّه ويستفيد من مضمونه ومقتضاه بالدرجة اللائقة.
ولست أقلّل من أهمّية الجانب التحقيقي للتراث القديم حاش لله، إذ هو أمرٌ ضروريّ لا يستغني عنه المستنبط المجتهد إذ على النصّ الثابت تُبنى المسائل والأحكام، فلا بدّ من التثبّت من صحّة النصّ ومصدره قبل الاستفادة منه والعمل بمقتضاه لا سيما في المسائل الشرعيّة التي بها نتعبّد الله تعالى. وكلّ هذه الجهود التي بُذلت في التحقيق العلمي للتراب إنّما هو لغرض التفقّه والاستفادة منه. فالغاية هو التفقّه والعمل بالمقتضى، والوسيلة هو التثبّت من ضبط المتن وصحّة الخبر. وليس من المعقول الاهتمام بالوسيلة أكثر من الغاية لا سيما أنّ الغاية في حدّ ذاتها تحتاج إلى ملكة ونضج في العقل وتجربة معتبرة، إذ كان أئمّتنا ومحقّقينا من أهل الأداء على تلكم الهيئة والسيرة. فابن الجزريّ عليه رحمة الله تعالى سُمّي محقّقاً لا من جهة تحقيق وضبط النصوص فحسب، وإنّما من جهة الدراية والفقه في المسائل أيضاً. فالعلم فطنة ودراية أحسن منه سماعاً ورواية كما قال الداني ومكي القيسي عليهما رحمة الله تعالى.
أتعجّب من بعض الطلبة الذين يحرصون كلّ الحرص على تتبّع طبعات الكتب المحقّقة ونقدها، وقد تجده ناقصاً من جهة الدراية والعلم، بل وقد تجده قام بعمل جبّار في ميدان التحقيق ويُتوّج من خلال ذلك بتاج العلم والمعرفة. وقد تجد في هؤلاء من يسلّم لكلّ ما يُقرأ به اليوم من غير تمحيص وتنقيح، مهملا للنصوص التي كان يمرّ عليها ذهاباً وإيّاباً أثناه تحقيقه للتراث، فهؤلاء يقال لهم لمَ التحقيق إذن.
عند مطالعتي لكتب المتقّدمين ككتب الداني ومكي القيسي وغيرها تعجّبت من كثرة الفوائد الموجودة فيها وأكاد لا أرى من يُنبّه ويعلّق عليها وفيها من الأجوبة الشافية والكافية لفكّ الخلاف الذي يتخبّط فيه قرّاؤنا وعلماؤنا اليوم في أصول المسائل وفروعها.
ولا أنفي وجود عدد من العلماء الذين ما اكتفوا باستخراج الكنوز من بطون المخازن فحسب بل استخرجوا الفوائد وأبرزوها على الساحة فجدّدوا ووضّحوا وبيّنوا بعض الحقائق التي ما كان الواحد يتجرّأ على التعرّض لها، فصارت اليوم من المسلّمات لقوّة الأدلّة التي أبرزت وتجلّت من خلال ما حوته تلك المصادر.
وقبل يومين كانت جالساً أمام مكتبتي فلفت نظري إلى كتاب التحديد للداني فجذبني إليه وفتحته فوقع بصري على نصّ ما تفطنت له من قبل مع إنّي طالعت الكتاب عدّة مرّات. والنصّ هو: قال الداني: " وأمّا المخفى فعلى نوعين: أخفاء الحركات، وإخفاء النون والتنوين " (التحديد ص100 تحقيق شيخنا غانم الحمد). فقلت في نفسي لمَ لم يذكر الميم المخفاة؟ ووضعت هذا النصّ في ملفّ المسألة بنظرة واحدة في الكتاب. وقلت في نفسي أيضاً: هذه نظرة واحدة فما بالك بالنظرات والدوام على المطالعة. فإننا والله سنستفيد الكثير والكثير ما لم يكن حتّى في الحسبان فلا ينبغي أن تتطغى الوسيلة على الغاية. فالتراث له حقّ عليها وهو إخراجه بتحقيقه ثمّ الاستفادة منه والعمل بمقتضاه في الفصل بين المختلف فيه من جهة، والاستنارة به في التأصيل العلمي الذي يفتقد إليه علم التجويد والقراءات.
¥