المؤمنين ما رواه سلف هذه الأمة ومن أخذ عنهم.
وممّا يؤكّد أنّ التلقي وحده لا يكفي ما نجده اليوم من الخلافات في بعض المسائل التي ابتُدعت على أساس اجتهادٍ محض لا يؤيّده نص ولنضرب لذلك مثالين: أوّلهما ترك الفرجة عند إخفاء الميم والإقلاب. فقد نسب العلماء المعاصرون هذا القول إلى الشيخ الجهبذ المحقّق السيّد عامر عثمان رحمه الله تعالى شيخ عموم المقارئ المصرية في وقته حيث اجتهد وقام بقياس الميم المخفاة على النون المخفاة وذكر أنّه كما أنّ طرف اللسان ينفصل ولا يلتصق بالحنك الأعلى عند إخفاء النون فكذلك لا بدّ من فصل الشفتين من بعضهما عند الإقلاب والإخفاء الشفوي ولا يتأتّى ذلك إلاّ بترك الفرجة قياساً وليس هدفي الخوض في المسألة ولكنّي أريد أن ألفت انتباه القارئ أنّ هذا الكلام هو اجتهاد محض وقد ترتّب عنه صوتُ جديدٌ لم يُعهد من قبل وهو مخالف للمتلقى بالسند ومخالف لما ذكره القدامى الذين أثبتوا إطباق الشفتين عند إخفاء الميم وإقلاب النون وهي أقوال كلّ من طاهر بن غلبون وأبو عمرو الداني وأبو شامة وأبو محمد المقالي في شرح التيسير والمرادي في كتابه المفيد وشرح الشاطبية للإمام جلال الدين السيوطي الذي طُبعَ مؤخّراً وغيرهم رحمهم الله ولم أذكر هذه النصوص اختصاراً. وهذا الاجتهاد المحض ترتّب عنه مفاسد وهي:
أوّلاً: أنّه مخالف للمتلقّى عن المشايخ حيث قرأ الشيخ عامر بانطباق الشفتين عن مشايخه كما ذكر غير واحدٍ من الثقات.
ثانياً: مخالف للنصوص القديمة.
ثالثاً: أنّه قياس محض لا يؤيّده نص إذ الأصل في القراءة الاتباع كما قال الشاطبيّ رحمه الله:
وما لقياسٍ في القراءة مدخل ......... فدونك ما فيه الرضا متكفّلا
والقياس لا يكون إلاّ في المسائل التي فيها غموض ولم يرد فيها نص كما حقق ذلك بن الجزري في النشر كالسكت عند إظهار الهاء في {ماليه هلك} إذ لا يتأتّى الإظهار إلاّ مع السكت لخفاء الهاء وبُعْدِ مخرجها خاصّة إذا تكررت. وكذلك الوقف على {شيء} ونحوها لمن قرأ بالسكت لحفص من طريق الطيّبة حيث لا يُتمكّن من السكت عند الوقف إلاّ إذا وُقِفَ بالروم على الهمزة. إذاً فالقياس أُخِذَ به ضرورةً. أمّا في مسألة الفرجة فلا داعي للقياس لأنّ المسألة ليس فيها غموض وخاصّة أنّ نصوص القدامى متوافرة في هذه المسألة والتلقّي فيها جليّ.
رابعاً: أنّ ترك الفرجة أصبح اليوم من المتلقّى بالسند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم بعد ما كان اجتهاداً محضاً. وإذا سألت الآخذين بالفرجة من أين لكم ذلك؟ يقولون تلقّيناها عن مشايخنا. فانظر أخي الكريم كيف أنّ المسألة منشؤها ومنبعها قياس واجتهادٌ محض يحتمل الخطأ والصواب ثمّ يصير بعد عدّة سنوات من المتلقّى بالسند. أليست هذه مصيبة؟.
المثال الثاني: ترقيق راء {ونذر} في المواضع الستّة في القمر. فاختلف المتأخّرون في ترقيقا. وأوّل من قال بترقيقها هو العلاّمة المتولّي في فتح المعطي وتبعه في ذلك العلامة الضباع حيث استحسن الترقيق في أرشاد المريد وكذالك معظم المشايخ الذين جاءوا من بعدهم. ويبدو أنّ المتولّي قاسها على {يسر} كما قال المحقق عبد الرازق علي إبراهيم موسى في تحقيقه لكتاب الفتح الرحماني ص147و148. وذلك أنّ بن الجزري ذكر في النشر ما يرقّق فرقاً بين كسرة الإعراب وكسرة البناء في ثلاث كلمات بالتحديد وهي {أن أسر} عند من قطع وسكن النون وكذلك {فأسر} عند من قطع ووصل وكذا {والليل إذا يسر} في الوقف على السكون على قراءة من حذف الياء. ولم يتعرّض بن الجزري إلى كلمة {ونذر} لا من قريب ولا من بعيد.
وما فعله العلاّمة المتولّي في قياس {ونذر} و {ويسر} قياسٌ غير صحيح كما ذكر الشيخ عبد الرّازق حفظه الله لما سيأتي:
أوّلاً: أنّ الياء في {يسر} أصلية لأنّها واقعة في لام الكلمة إذ أصلها يسري على وزن يفعل، أمّا الياء في {ونذر} فهي ياء للإضافة زائدة.
ثانياً: أنّ الراء في {ونذر} معربة وإنّما كُسِرت لمناسبة الياء عند من أثبتهاحيث يمكن رفعها في غير القرءان نحو جاء نذرُ فلان، أمّا في {يسر} فهي كسرة للبناء لأنّ الراء في عين الكلمة لا تتغيّر في جميع الأحوال لذا رُقّقت فرقاً بين كسرة البناء وكسرة الإعراب على ما نصّه بن الجزري.
¥