وهذه الآية التي هي سبب بحثنا تعد من الآيات التي أشكل معناها على كثير من المفسرين، بل قد أشار الرازي إلى أنها: ((من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها)) ()، وقد عدَّها الدكتور محسن عبد الحميد من المشكلات في التفسير ()، فهذا الكلام من الرازي هو الذي دفعني للكتابة عنها، ولكي أقف على حقيقة تفسيرها حاولت استقصاء أكثر كتب التفسير التي تناولت هذه الاية، وحاولت أن أجعل بحثي منصبًّا على تفسير (الهمّ) تاركًا الكلام على (البرهان) ()، لأنه يحتاج الى بحث مستقل.
والأمر الآخر: ذكرت الروايات كما هي عند الطبري، ثم أتبعتها بعد ذلك بتحقيق أسانيدها من كتب الجرح والتعديل، وجعلت أرقامها كما هي مثبتة في النسخة التي حققها الأستاذ محمود محمد شاكر لتفسير الطبري، ودرست كل أثر برجاله، مترجمًا لكل واحد من الرواة، مع بيان حاله من الصحة والضعف، وبعدها أحكم على كل أثر ورد بحسب ما تقتضيه طبيعة البحث.
ومن أهم المشاكل التي واجهتني في بحثي هذا، موضوع الرواة، فإن الطبري في كثير من الأحيان يذكر الاسم مجردًا عن اسم ابيه وجده، فلا أدري من هو المطلوب، وأن تفسير الطبري مليء بالأعلام المبهمة، والتي تجعل الوصول إلى تعيين المراد من أصعب الأمور وأعقدها.
وقد وجدت أن الروايات التي ساقها الطبري في تفسيره لقوله ?: ? وهمت به وهم بها ?، كلها تتفق على معنى واحد، وهو نسبة (الهم) إلى يوسف ? لفعل الفاحشة لولا رؤية البرهان، وإن في هذه الروايات تجاسرًا على مقام النبوة، وأغلب ظني أن هذه الروايات يظهر فيها بوضوح الأثر اليهودي، لأنه معلوم أن اليهود يصفون أنبياءهم بأقبح الصفات وأبشع الأعمال التي لا تتفق أن تصدر من أقبح الفساق، ورأيت كثرة الروايات الإسرائيلية التي أُلصِقَت بتفسير هذه الاية، وتتبعت هذه الروايات من حيث الإسناد فلم يصح فيها سند صحيح، ولم يذكر هذه الروايات أصحاب الكتب الستة، فكلها أسانيد ضعيفة أو موضوعة، أما من حيث المتن فأغلب المحققين من المفسرين على نقدها وردها.
وقد جعلت بحثي في مقدمة ومبحثين وخاتمة.
فأما (المقدمة) فذكرت فيها الباعث لكتابة البحث والجامع الذي يجمع الروايات التي ساقها الطبري.
أما (المبحث الأول): فتكلمت فيه على بيان (الهمّ) عند أهل اللغة والتفسير.
وتكلمت في (المبحث الثاني) على المرويات التي تفسر ما يتعلق بـ (الهمّ)، وقسمته على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تناولت فيه الروايات التي نقلها الطبري في تفسيره.
المطلب الثاني: تناولت فيه تحقيق الروايات في ذلك من حيث الإسناد.
المطلب الثالث: تناولت فيه نقد المحققين من المفسرين لمضمون الروايات التي ساقها الطبري.
أما (الخاتمة) فذكرت أهم ما توصلت إليه من نتائج.
المبحث الأول
بيان معنى (الهمّ) عند أهل اللغة والتفسير
قال ?: ? ولقد همت به وهم بها ?، هذه الآية الكريمة من الآيات المشكلة من حيث إنها نسبت (الهم) في الظاهر إلى يوسف ?، ومن أجل الوقوف على صرفة الآية على الوجه الصحيح، لا بد لنا من الوقوف على معناها عند أهل اللغة.
جاء في لسان العرب: ((و (همَّ بالشيء يهمُّ همًّا): نواه وأراده وعزم عليه، و (الهمُّ): ما همَّ به في نفسه. تقول: (أهمني هذا الامر)، و (الهَمَّة والهِمَّة): ما همّ به من أمر ليفعله، وتقول: (إنه لعظيم الهمِّ)، و (إنه لصغير الهمة)، و (إنه لبعيد الهِمَّة)، و (الهَمَّة)، بالفتح)) ().
و (الهُّم بالشيء) في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع (). وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: (همت بفلان)، و (همَّ بي)، وأنت تريد اختلاف الهمَّين، واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الاكابر ().
قال الزمخشري: (((همَّ بالامر) اذا قصده وعزم عليه)) ().
قال ابو حاتم: ((كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله تعالى: ? ولقد همت به وهم بها ?، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، كأنه أراد: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها)) ().
¥