تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أن يكون الضميرُ المنصوب وهو «إياها» كنايةً عن اللسعة، لا عن العقرب، والضمير المرفوع كناية عن الزنبور، فكأنه قال «ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور لسعَةَ العقرب» أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب، فاختزل الفعل لما تقدّم من الدليل عليه، بعد أن أضمر اللسعة متّصلة بالفعل، فكأنه قال «فإذا الزنبور يلسعها» فاتّصل الضمير بالفعل لوجوده، فلمّا اختزل الفعل انفصل الضمير، لعدم الفعل.

ونظير هذا من كلام العرب قولهم «إنما أنت شُرْبَ الإبل» أي: إنما أنت تشرب شرب الإبل، فاختزل الفعل، وبقي عمله في المصدر، ولم يرفع، لأنه غير الاسم الأول، فلو أضمرت شرب الإبل بعدما جرى ذكره فقلت «ما يشرب زيد شرب الإبل، «إنما أنت تشربه» لاتّصل الضمير بالفعل، فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه» فتدبره تجده منقادًا صحيحًا.

والوجه الآخر:

أن يكون قوله «فإذا هو إياها» محمولاً على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولاً وآخرًا، لأنَّ الأصل في تأليف المسألة «ظننت أنّ العقرب أشدُّ لسعة من الزنبور فلمّا لسعني الزنبور ظننته هو إياها» فاختصر الكلام لعلم المخاطب، وحذف الظنّ آخرًا لما جرى من ذكره أولاً، ودلَّت «إذا» لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالّة على وقوع الشيء لوقوع غيره،

فإذا جاز حذف الكلام إيثارًا للاختصار مع وجود الدليل على المحذوف كان قولنا «فإذا هو إياها» بمنزلة قولنا «فلمَّا لسعني الزنبور ظننْتُه هو إياها» فحذف الظن مع مفعوله الأول، وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكدًا للضمير المحذوف مع الفعل ودالاًّ على ما يأتي بعده من الخبر المحتاج إليه، فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} (سورة آل عمران، الآية: 180) فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله «يحسبن» وبقي الضمير مؤكدًا له مثبتًا لما بعده من الخبر، وجاز حذفه لدلالة «يبخلون» عليه، والمعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيرًا لهم، فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظنّ المضمر ومُثْبِت لما يجيء بعده من الخبر الذي هو «إياها» فتفَهَّمه فإنه متمكّن من جهة المعنى، وجارٍ من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل، وشاهدُه القرآنُ في الحذف واستعمالُ العرب النظائرَ، وهي أكثر من أن تحصى، فمنها قولهم «ما أغفله عنك شيئًا» أي تثبَّتْ شيئًا ودَع الشكّ، وقولهم لمن أنكر عليه ذكر إنسان ذكره «مَنْ أنت زيدا» أي: من أنت تذكر زيدًا وربما قالوا «من أنت زيد» بالرفع على تقدير: من أنتَ ذكرك زيد، فحذفوا الفعل مرّة وأبقوا عمله، وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره، وكلّ ذلك اختصار؛ لعلم المخاطب بالمعنى، وكذلك قولهم «هذا ولا زَعَمَاتِك» أي هذا القول والزعم الحقّ ولا أتوهَّمُ زعماتك، فحذف هذا لعلم السامع مع تحصّل المعنى وقيامه عند المخاطب، والحملُ في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى.

فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتّة إلاَّ رفع الضميرين بالابتداء والخبر، على حَدِّ قولك «ظننت زيدًا عاقلاً فإذا هو أحمق، وحسبت عبد الله قاعدًا فإذا هو قائم» ولو تقدّم ذكر الخبر والمخبر عنه لقلت «فإذا هو هو» ولم يجز فإذا هو إياه البتّة.

ويجوز في المسألة أن تقول «فإذا هي هو» على التقديم والتأخير على حدِّ قولك «فإذا العقربُ الزنبورُ» أي سواء في شدة اللسعة كما تقول «خرجت فإذا قائم زيد» على تقدير فإذا زيد قائم، ويجوز أن يكون «هو» كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه، وتكون «هي» كناية عن اللسعة على تقدير: فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب، ويجوز «فإذا هي هو» على إضمار اللسعة واللسع، والتقدير: فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب، وهذا كلّه لا يجوز فيه إلاَّ الرفع عند البصريين؛ لأنَّ الآخر هو الأول، والخبر معرفة متعلّق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال، والكوفيون يجيزون النصب كما تقدّم، وهو غلط بَيِّنٌ، وخطأ فاحش، لا تقوله العرب، ولا تعلّق له بقياس، فاعلمه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير