” و اعتبر اسم "الناصري" أسمى و أشرف من أن يطلق على هذه الشرذمة من اليهود المسيحيين, و سرعان ما أُطلق عليهم ما افترض فيهم من ضيق الأفق و ضآلة الإدراك, بالإضافة إلى حالتهم – الاسم الحقير المزري "الأبيونيون". (19).
اضطهاد الناصريين في روما
كان نفس الأسلوب من الاضطهاد في روما. حيث كانت جماعة تعرف باسم "الجليليون" Galileos, مكونة من الناصريين و الزيلوتيين الذين اتهمهم نيرون بالمسؤولية عن حرق روما و عذبهم عقابا لهم. و طُلب من الناصريين دفع الضرائب الباهظة التي كانت مفروضة خصيصا على يهود روما:
"ولما جاوز مأمور الدخل الحد و طالبوا بغير حق كثيرا من الأشخاص الغرباء على الدم اليهودي و الديانة اليهودية, كان من المستحيل على المسيحيين, و هم الذين كثيرا ما استظلوا بظل الكنيس, أن ينجوا بأنفسهم من الاضطهاد الوحشي الجشع. و كان حرصهم شديدا على اجتناب أية شبهة وثنية, فأبت عليهم ضمائرهم أن يسهموا في تكريم ذلك الشيطان الذي تقمص شخصية جوبتير في الكابيتولينا. و لما كانت فئة كبيرة, و لو أنها في طريق الاضمحلال, بين المسيحيين, ظلت ملتزمة بشريعة موسى, فإن جهودهم في ستر منبتهم اليهودي قد فضحها الاختبار الحاسم, ألا وهو الختان." (20).
عندما نقرأ ما تعرّض له الناصريون, و الذين اتبعوهم من بعد ذلك, من اضطهاد نتذكر الآيات التالية من إنجيل يوحنا:
"سيخرجونكم من المجامع, بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله". (انجيل يوحنا, الإصحاح 16. 2)
رب ضارة نافعة:
لقد كان للاضطهاد الأول للناصريين وقع كارثي عليهم, لكنه ساهم أيضا في توزيعهم على مجمل ربوع الإمبراطورية الرومانية. فإذا كان عددهم في البداية قليلا, فإن تعاليم المسيح وٌجهت للجميع مما ساهم في اتساعها على مجال واسع. لم تكن في البداية سوى جماعة أو جماعتين, أما الآن فقد زرعت بذور جماعات عديدة. بمحاولتهم تدمير الناصريين, قام المضطهِدون في الحقيقة بضمان استمراريتهم: "حافظت الجماعات التي أسسوها على نمط عيش المسيح. أولئك الذين استمروا في تطبيق تعاليم المسيح مرروا الكثير من علمهم مباشرة من شخص إلى شخص. السلوك تم تقليده و العقيدة انتقلت شفهيا. فاستمروا هكذا في الإيمان بتوحيد الله.” (21)
لما بدأ العهد يطول على زمن حياة المسيح, بدأ الناس في تدوين ما يذكرونه أو تعلموه عن حياته و تعاليمه. هكذا كان لكل جماعة صغيرة تلتف حول تلميذ للمسيح أو أحد حوارييه كتاب خاص بها. و من المعلوم وجود العديد من هذه الكتب: "في تلك الأيام الأولى, لا أحد من تلك الكتب لاقى قبولا قطعيا أو رفضا قطعيا. كان من سلطات قائد كل جماعة نصرانية الحسم في الكتاب الذي يتخذون. كان الأمر رهينا بمن الذي علّمهم, فكان لكل فرقة مصدر مختلف. فالذين احتدوا ببرنابي كان لهم مصدر و الذين اتبعوا بولس كان لهم آخر." (22)
بوفاة أتباع المسيح الذين عاصروه, تمّ اختيار تابعيهم من طرف جميع أعضاء الطائفة. هؤلاء الزعماء تمّ اختيارهم لاعتبارهم أفضل من يمكن أن يقود الطائفة لعلمهم و خوفهم من الله: " لا يملكون شيئا و يحتمل أنهم رفضوا السلطة و البهرجة التي تحيط الآن بتاج البابا الروماني أو تاج الأسقف الألماني" (23).
كانوا خدما لعباد الله. رغم ذلك, و مع مرور الوقت, أصبحت هذه الوضعية هدفا للذين يتطلعون للسلطة. فالكهنة و الأساقفة, كما سيطلق عليهم فيما بعد, انخرطوا بقوة في السياسة, خاصة بعد تأسيس المجامع الكنسية. لقد بدأت تظهر إلى الوجود نظام الطبقات الكنسي الذي هو بعيد كل البعد عن تعاليم المسيح.
الخلط بين الناصريين "الرافضين لألوهية المسيح" و النصارى " المؤمنين بالنصرانية المحرفة".
لم ير الرومان بعين الرضا ظهور "أول كنيسة", فحاولوا التمسك بعبادة آلهتهم. خلال القرون الثلاثة التي تلت رفع المسيح, لم يكونوا يميزون بين الناصريين و النصارى التابعين لبولس. فكلمة ”نصراني" كانت تُطلق على أتباع المسيح و أيضا على اللذين اعتقدوا ألوهية المسيح. كان إعلان الرجل إيمانه بالله و رفض تقديم الاحترام لآلهة الرومان كافيا لإدانته. كان معرضا للسجن, لمصادرة الممتلكات, و للموت في غالب الأحيان. كتب جيبون عن هذا فقال: " إن سلوك المُضطهِدين قد نافى كل مبادئ الإجراءات القضائية. لقد أباحوا استعمال التعذيب ليس
¥