ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أجلس قومي ذاهب السمع والبصر
هذه القصة ذكرها المؤرخون، أمثال ابن الجوزي وابن عساكر وابن كثير وغيرُهم.
هذه إجمالاً واختصاراً أسباب الهداية.
وبضدِّها تظهر الأشياء، فأذكر موانع الهداية كما ذكرها ابن القيم باختصار:
السبب الأول: ضعف معرفته بهذه النعمة، وأنه لم يقدرها قدرها.
وانظر – رعاك الله – بعين بصيرتك إلى حال أكثر الناس، الذين ربما بلغوا شأنا عظيماً في أمور الدنيا، وهم يُقيمون على الشرك والضلالة، ويصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)
السبب الثاني: عدم الأهلية … فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر، فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئا وكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابة فيه ولا قوة ولا عزيمة
لم يؤثر فيه العلم.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلِم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
السبب الثالث:قيام مانع وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم. اهـ
ومن ذلك ما ذكره الله عن المشركين: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً)
فكان الجواب: (قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً)
وحقيقة المسألة تعنّت واستكبار، وإلا لو جاءهم ملك لقالوا: هذا تختلف طبيعته عن طبيعتنا، فهو من عالَم آخر، ويُطيق ما لا نُطيق!
وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)
فسيقولون حينها هذا ليس بِمَلَك!
السبب الرابع: - مما ذكره ابن القيم - مانع الرياسة والملك، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبرٌ عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقرُّوا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم. اهـ.
وقد أخبر الله عن فرعون أنه ما مَنَعَه من الإسلام والانقياد إلا ذلك، وإلا فقد أيقن فرعون بصدق موسى، قال الله عز وجل: (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
ومثلهم الملأ الذين حكى الله أخبارهم، فكانوا يخشون إن آمنوا أن تذهب هيمنتهم، ويذهب جاههم، ويتساووا بالعبيد، قال الله جل جلاله: (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ {7} أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)
¥