[بين القلم و الجلاد]
ـ[خالد الحسيني]ــــــــ[16 - 12 - 2008, 09:25 م]ـ
[بين القلم و الجلاد]
لا يظنَّ ضانٌّ أو يتفرس صاحب فراسةٍ في أنّ ما سيذكرُ من أحداثٍ هي في سجنٍ محيطٍ بنا، في الشرق أو الغرب، في أرضٍ عربيةٍ أو بلادٍ إسلاميةٍ أو في زاويةٍ من أرض الفرنج نائيةٍ، لا، ولا على شبرٍ من أرضنا الكرويّة، إنها في كوكبٍ آخرَ في المريخ أو المشتري، نعم .. نعم، إنها في المريخ، وصاحب القصة التقيتُه في آخرِ سفرةٍ سافرتُها إلى عطارد، وها نحن في العام ألفين وثمانٍ وخمسين للميلاد؛ الموافقِ لألفٍ وأربعمائةٍ وثمانٍ وسبعين للهجرةِ .. والحمدُ لله لمْ يعُدْ على كرتنا الأرضيّة سجنٌ يُذكر، فقد أعلنتْ دول العالم قاطبةً قبل عشر سنواتٍ إغلاقَ جميع السجون وتحويلَها إلى مكتباتٍ علميةٍ ..
إذنْ، أحداثُ الحكاية في المريخ، وتحديداً في شارع الحرّية ..
و اسمُ السجن "فِلَسطين"
لأنّ أول من دخله كان من سكان الأرض من "الجمهورية العربية الفلسطينية" التي تحررت منذ ثلاثين سنة، ولله الحمد والمنّة ..
وإليكمُ القصةَ من فم صاحبها لمّا كان بين يدَيِ الجلاد في ذلك السجن؛ حيث قال لي:
عندما كنت بين يدي الجلاّد، وقد كان رقيعاً جلفاً بارداً ثقيلَ المزاج، وسوادُ وجهه وعبوسُه ينمُّ عن أمرٍ جلَلٍ .. فاعتراهُ صمتٌ بعد شتمٍ وصراخٍ لم يظفر منْهُ بِمُناه ..
فصمت المكانُ لصمته، بل انقطعتْ الأنفاسُ لذلك الصّمت المخيفِ، فلا تسمعُ همساً، بل لا ترى إلا ظلُماتٍ بعضُها فوق بعضٍ: ظلْمةُ الليل البهيم الذي تأخر صبحُه، وظلمة المكان المنتنِ بمن هم جنودُه وأهله، وظلمة وجه الجلاد الكالحِ، وظلمة الطغيان الذي لا يهدأ!!
ثم تبدد السكونُ بخروجِ الجلاد من صمته ... قائلاً: سأقطع هذه اليد الكاتبةَ، وأجعل الأناملَ مِن تلكمُ اليد طعاماً للكلاب الجائعة! .. لنرتاح من قلمٍ صريرُه أقضَّ مضاجعنا، ومدادُه أرعب مستقبلنا وتكشّفتْ به عوراتُنا ..
فلمّا همَّ بالسوء وأتى بمنشارِه وعدّته وعَتاده، ويدُه ترتجف ممّا تحملُ، بل لعلّها كانت ترقص وتزهو من شينِ فعلهِ وعظيم جرمه!!
حينها سقط المنشار .. فضجّ المكان .. وارتجف الحرّاسُ وليس بين أيديهم سِوى أسيرٍ لا يقوَى حتّى على الالتفات، بل لا يجرؤُ على الهمس، بل أنفاسه تُعَدُّ له عدًّا .. ولكنه ذلُّ الجَور والطُّغيان، الذي يحرك النفسَ الخائفةَ .. وهي دائمةُ الخوف والاضطراب، وإنْ كانت في أعلى الأبراج، مدججةً بأعتَى الأسلحة، وبشتّى الجنود والأتْباع.
لأنّها تعلم - بيقينِ نفْسها - اغتصابَها للعقل البشريّ، وأَسْرَها لنبض الشّعب، وذلك بقتلها لروح الحرية.
لم تحترم عقلاً .. ولا فكراً .. ولا ديناً!
تعرف باطلَ ذاتِها، وتَعِي وتعلَمُ أنّ الباطل مهما طال لَجْلَجٌ ما أسرَعَ ما يتلاشى ويذهب.
وعندما هدأ خوفُ الجلاد، وزالت عنه غاشية العار .. قال وصوته يرتعش:
لا .. لا .. لن أقطع يدك، بل سأرحم ضعفك! وما عليكَ إلا أن تضعَ توقيع قلمكَ على هذا التعهُّد، نعمْ، تعهّدُ الخنوع الدائم، بل شهادةُ وفاةٍ لصوت الحق .. وضمير الحياة الكريمة! هيّا، قم وتعهّد أيها المشاغب بألاّ تكون حرًّا .. بل ستكون جنديًّا من جنود سَطوتِنا، بل قائداً يقودنا قُدُماً .. نحو الهيمنة!
عندها أمسكتُ القلم لأكتب ما يريدون، فراراً ونجاةً من حالِ البؤسِ والمكثِ خلف القضبان الصامتةِ التي تنبعث منها رائحة الموت .. فأبى القلمُ أن يكتبَ .. و توقّف مزمجراً .. ترتعدُ فرائصه!
فقلت: اكتبْ - رعاك الله - حتى ننجوَ ونفرَّ بما تبقّى من جلودِنا .. فلا عهدَ ليدِ الغدر علينا لأنّنا بسلسالِ الإلحاد مكبَّلون، وإلى مقصلة الإعدام منقادون، فنحن والله معذورون ... فلا عارَ من ذلك يلاحقُنا، ولا شنار تُوصَمُ به جباهنا.
فقال كبرياء القلم: لا .. لن أكتب للظلم ميثاقاً .. اكتبْ أنت بدمك إن شئت! فمدادي يأبى ذلك، نعم يأبى الخنوعَ .. يأبى الاستسلامَ .. يأبى الذلَّ .. يأبى كلَّ ذلك .. وإنْ كان طوقُه من الجوهر والماس.
فقلت له:
وما لدمي أدنّسُهُ بعهدِ الطواغيت؟! إذنْ .. وداعاً يا قلمي .. سأذهب إلى مقصلة الأحرارِ لأموت مَوتةَ الشُّجعان، بل لأحْيَا حياة الأبطال ..
فحزنَ القلم، وسالَ مدادُه دموعاً تساقطتْ على أوراق الجلاد، فظنها الجلاد، توقيعاً وعهداً ..
فقلت والقلم .. للجلاد:
لا يا جلادُ، لن نكتب للظلم ميثاقاً ..
لا يا جلادُ، لن نكتب للظلم ميثاقاً ..