[ظلم الأدباء للشواعر من النساء: دعوة للإنصاف]
ـ[ابن هشام]ــــــــ[11 - 12 - 2008, 11:59 م]ـ
:::
تعرضت المرأةُ للظلم كثيراً في تاريخ الأدب العربي القديم والحديث على السواء، وقد لفت نظري نشاط أخواتي هنا في منتدى الفصيح في قسم الأدب وغيره من نوافذ الفصيح، فتأملتُ في تاريخنا الأدبي وأخذت أستعرضُ الذاكرة لقياس عناية أهل الأدب بشعر النساء، والاحتفاء به، والاختيار منه، والدلالة عليه. فلم أجد عبر القرون إلا أسماء قليلة تتردد بين الحين والآخر، وغلبة أسماء الشعراء من الرجال على كتب الاختيارات الأدبية.
وإنك لتقرأ في كتب الأدب القديم أسماء كثيرة لشاعرات من النساء ثم لا تجد لواحدة منهنَّ ديواناً حافلاً مجموعاً مرتباً مشروحاً كما فعلوا ذلك بدواوين الشعراء الرجال. فقد بالغ العلماء بجمع شعرهم وترتيبه وشرحه والموازنة بينه وبين غيره، وبذلوا وسعهم في إظهار معانيها المخترعة ومقابلة بعضها ببعض، ومآخذ المشترك منها، والموازنة بين المأخوذ والمأخوذ منه، ولم يكن لعلماء اللغة ورواتها مثل هذه العناية لشاعرة من شواعر الجاهلية. وكأنَّ الذين تخيروا الشعر لم يريدوا أن يتخيروا قصيدة أو قصائد للنساء لتكون بجانب قصائد الشعراء من الرجال!
فهذا أبو زيد القرشي في كتابه (جمهرة أشعار العرب) وهو من أجود كتب الاختيارات ضمَّن كتابه تسعاً وأربعين قصيدة من القصائد الطوال ولم يورد فيها قصيدةً واحدةً لامرأة من شعراء الجاهلية أو الإسلام مع إِنَّ في أشعار جليلة البكرية والخنساء وليلى العفيفة وغيرهنَّ ما يُزري بشعر الشعراء ويفوقه ولا يذكر بجانبه شعر كثير من أصحاب المذهبات والمشوبات والملحمات والمنتقيات التي أوردها في جمهرته.
وكذلك المفضَّل بن محمد الضبي رحمه الله في كتابه (المفضليات) اختار مائة وعشرين قصيدة وقطعة كلها للرجال إلا أبيات خمسة نسبها لشاعرة مجهولة من بني حنيفة.
فهذه هي مكانة شعر النساء في نظر الأدباء والرواة والعلماء في ذلك الزَّمن المتقدم، وكأنما الذين جاءوا بعدهم احتذوهم حذو النعل بالنعل، فما رأيتهم دونوا شعر ليلى الأخيلية في ديوان كما دونوا شعر مجنونها، ولا شعر علية بنت المهدي كما دونوا شعر أبي العتاهية، ولا دونوا شعر ولادة بنت المستكفي كما دونوا شعر ابن زيدون، وقس على سائر من ذكرتُ من لم أذكر من الشاعرات.
وقد حاول الأديب حسن القاياتي رحمه الله تتبع مميزات شعر المرأة عن شعر الرجل، فذكر منها جهتين:
الأولى: من جهة صفة الشعر.
والثانية: من جهة فنونه.
وملخص الجهة الأولى أن شعر المرأة يُجلِّي أخلاقها أكثر مما يجلي شعر الرجل أخلاقه، وأنه يدور حول موضوعها ولا يكاد يخرج عنه، وأنه بعيد عن الحوشية قريب من الفطرة ومتناول العامة، وأنه أصرح من شعر الرجل لأنها لا تكاد تبقي شيئاً في نفسها، وأنَّه أشدُّ أثراً في النفوس من شعر الرجل وخصوصاً ما كان منه في الفجائع.
وأَمَّا مِنْ جهة الفنون فقد هجرتِ المرأةُ وصفَ الجمال ومجالس الشراب لغلبة الحياء عليها ولا ستقباح ذلك منها، وأن مادتها أغزر من مادة الرجل في الرثاء.
وإِني أرى زماننا اليوم كزمانهم أمس، لم أشعر بأي إبراز لشعر المرأة في زماننا وأدبها، ربما لبعدنا نحن الرجال عن مجتمع النساء، فقد يكون لهنَّ في مجتمعهنَّ من العناية بشِعرهنَّ ما لا أعرفه. قد يكون ذلك وهذا يسعدني، لكن بحكم معرفتي بمجمتع النساء من خلال زوجتي وأخواتي وقريباتي لا أشعر بأي عناية بذلك تذكر.
ومما ألاحظه في زماننا غلبةُ الأسماء النسائية من الشاعرات في مجلات الشعر الشعبي وربما قنواته كذلك، وأذكر يوماً وقعت عيني على شاعرة حسناء في إحدى القنوات الخليجية تُلقي شعراً شعبياً لها هي في مجمع الرجال، ولم يستوقفني معنى الشعر قدر ما استوقفني جمالُ الشاعرة، وغنجها وهي تلقي الشعر بين الرجال، والكاميرا تسلط الضوء على الشاعرة من زوايا معينة، مع إضافة الصدى للصوت أثناء الإلقاء! وكل هذه المؤثرات تذهب بك بعيداً عن عالم الشعر وتذوقه، إلى عالمٍ مختلف. ثم بعد ذلك تأتي الاتصالات من المعجبين والمعجبات، وكذلك من الحضور. وهذه كلها أمورٌ محرمةٌ لا أرضاها لأديبة مسلمةٍ تعتز بدينها وحياءها، ولكنه مثال لما شاع من ألوان الأدب الذي يُراد لنا أن نعتقد أنه هو أدبنا الذي يمثلنا، وللأسف فقد تكاثرت مثل هذه القنوات والمجلات التي تروج لهذا اللون بين الرجال والنساء.
أعود لأشير إلى أن سبب كتابتي للموضوع ابتداءً هو الإشادة بما لفت نظري في الفصيح من وجود عدد كبير من الأخوات الأديبات المتذوقات للشعر وربما الشاعرات كذلك، مع قدرة لغوية مُشرِّفةٍ، واستقامة أخلاقية نسأل الله أن يزيدهنَّ طهراً وديناً، وهم من مختلف بلاد وطننا العربي الكبير، من هنا من الخليج العربي ومصر وبلاد الشام والمغرب العربي وغيرها، وهم على درجة عالية من المعرفة بالأدب وربما أكثرهنَّ يحملن شهادات عليا في ذلك في الأدب واللغة والنحو وغيرها من فنون لغتنا الشريفة ولو شئت لذكرت بعض الأسماء المميزة ولكن أخشى أن أنسى من يستحق الإشادة من الأخوات، فليتهنَّ يتعاونَّ فيما بينهنَّ على نشر هذه الثقافة الأدبية العالية الأصيلة في أوساط النساء، ويشكلنَ في نواديهنَّ ما يرتقي بأذواق نساءنا، فعالم النساء بالنسبة لنا نحن الرجال بعيدٌ عنا، وهنَّ أدرى بما يصلح له سددهنَّ الله وبارك في جهودهنَّ. ونحن نفخر بوجود أمثال هؤلاء الأديبات في مجتمعاتنا حيث إن ذلك ينعكس تربية صالحة لأجيالنا وبناتنا في المدارس والكليات، وهذه رسالة أدبيةٌ وأخلاقية وتربوية وشرعية ينبغي أن يتصدين لحملها في وسط النساء (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً).
¥