ما اكثر العاتبين واللائمين وهم عن الفعل غافلون، وكأنهم في إلقائهم اللوم على الغير تستريح ضمائرهم، ويهدأ بالهم. ومن كانت فيه الشهامة والفتوة فلن يلجا إلى العذم واللوم، ثم تشجع ذلك الفتى على الصمود وأن يبقى مستمرا على بطولته حتى النهاية، وأن الصمد والبطولة تقض مضجع الظالم المتجبر، أما الخنوع فإنه يبهجه ويشجعه على ظلمه.
ما فهمته أيضا انك تعتب على رفاق لك يبدو انهم اتخذوا طريقا مغايرا، ولكنهم اتخذوا مما قمت به وادعوه لأنفسهم او من هذا القبيل، وأنك لم ولن تقبل بما قبلوا به في قولك:
شكائم الأسياد أخطأت فمي = لستُ الذي يستعسل الشكائما
وتتجلى عظمة النفس المؤمنة في قولك:
أنزلني الله ذرى قناعة = لم أبك وديان الغنى رمائما
وقبلها:
نذرتكم نزاهة لا أبتغي = كرسيها جاها ولا دراهما
أخاف خالقي فما مخافتي = خلائقا تآمروا نواقما
ثم إن التنحيَ لم يكن من تخاذل أو تراجع، ولكن سببه عدم الرغبة بالاسئثار بالقيام بالمهمات ما دام هناك من يعترض ويرى في النهج المغاير سبيلا أفضل كما يدعي، لهذا، وما دمت أعتبر أنني العقبة الكأداء التي تسد عليهم الأنفاس فليسمعوا:
ها إنني نزلت عن أنوفهم = فلينشقوا الإقدام والعزائما
ثم إن هذا التنحي والتوحد المقيد بالصمت يستطاب مؤقتا لأنه في قمقم، والقمقم لا بد وان يُفتح يوما.
وهاكم روعة التعبير التي تنم عن عواطف بينة الصدق وقدرة لغوية وبلاغة في التعبير يبدو ان الشاعر استقاها من ثقافة أدبية وعامة واسعة مترامية الأطراف، ومجمل قصيدته يوحي بذلك:
مطرقتي استجارني سندانها = ألا أجير أضلعي جواثما
إرادتي الصوان إلا أنني = آليت ريحان الحشا متاخما
أنا الندى المكلوم من أشواكه = لا أرعوي طلا أسُرّ الكالما
الأبيات تدل على شدة المعاناة، وما دام السندان يستجير فما أثقل وأعنف المطرقة، ورحمة ً لتلك الضلوع تئن من ثقل الكوابيس. الإرادة صلبة كالصوان بل هي الصوان بذاته، ولكن للمُعاني الحق براحة ولو قليلة فهو ليس من دم ولحم فحسب بل إنه من عواطف جياشة تتوق للرقة والحنان اكثر من الغير. قالوا قديما: ويل للشجي من الخلي، وهؤلاء الخليون هم الغير، وتتضح الرقة اكثر فأكثر عندما يُجرّح الرقيق من أشواك الندى التي هي في الحقيقة اشواك ناعمة الملمس كالحرير، وهو بالتالي لا يردع الندى عن ملامسة الجروح حتى لا يُسر الجارح.
قسمت ظل الزند ما بين حسّدي = فلم يُقل يا زند كن مقاسما
ربما المقصود بظل الزند الجهد المبذول في الخير، ولم يلاق الباذل من يقاسمه أي مغنم. هنا يبدو الإيثار وعزة النفس واضحين.
إن اشتكى الأحباب حلمي عابسا = قد اشتكى الأعداء حلمي باسما
يحلم على أحبابه عابسا من شدة المعاناة وهو يعلم أن أحبابه يعذرونه، أما الأعداء فلن يزيدهم عبوسه إلا شفاء غليل فيبسم امامهم، وليس لهم، حتى يغيظهم، وهذا درس تقتفى فوائده.
أما الغزير ذو المناصب والجاه المزيف والذي انضوى تحت لواءه كل انتهازي فله كل الاحترام والإعجاب لأنه استطاع ان يجد من ينضوي تحت لواءه، ولكنه يجد ايضا من لا يأبه به او يمنحه أية قيمة ويتصدى له باقتدار:
خرطومنا فوق السحاب إن يُقل = تحت السحاب نجدع الخراطما
وأنا أقرا هذا البيت سرت في بدني هزة الفخر والاعتداد بالنفس التي تسير في سبيل الحق لا تخشى احدا إلا الله، ثم إن التعبير بشم العرانين وغيره من التعابير المستهلكة قديما تتضاءل امام التعبير السابق من وجهة نظري على الأقل، والبيات التي تلت رائعة في نفس المعنى.
ينتقل الشاعر الآن إلى تبيان الهم العام بوضوح:
ضف غيرنا يا ابن الكفاح نارنا = خبت ولن تعيد طيء حاتما
والأبيات التي تليه حتى:
نهديك من رويبض رسالة = أنخ محاربا انخ مسالما
وصف بليغ لحال سيئة واقعة، ولكننا نتشجع وترتفع معنوياتنا عندما يهل علينا:
يدي على السيف إذا تعسبرت = حولي الضباع زرتها غلاصما
أكتفي بهذا القدر وذلك لطول القصيدة وما تحتاجه من جهد لاستجلاء بعض من روعتها، ولعل غيري من هو أطول من باعا فيكمل او يبدأ من جديد إن شاء، ولكن يبقى علي أن أقول: أن القصيدة تعتبر عندي من عيون القصائد في موضوعها، والفاظها وعباراتها، وفي قدرة الشاعر الفائقة في التأثير على القاريء. أرجو ان اكون قد وُفقت بعض التوفيق في عرضي الموجز هذا، وأعتذر من كل خطا غير مقصود.
دمت يا استاذنا في رعاية الله وحفظه، وأدعو الله العلي القدير ان يحقق أمانيك وامانينا معك، وان يكون امثالك كثر في وطننا الغالي.
عرفنا أبا أحمد الشاعر فكشف لنا اليوم عنه ناقدا بارعا
ـ[أبو-أحمد]ــــــــ[27 - 12 - 2006, 12:50 م]ـ
لطف جميل من أخي الأستاذ أبي خالد، وأين انا منك ناقدا بارعا يا أستاذنا!
دمت بخير من الله وتوفيق.
ـ[يوسف المراكشي]ــــــــ[04 - 10 - 2007, 06:15 م]ـ
بارك الله فيك أخي خالد
لله درك صاحبي
ولك تحياتي
¥