المقامة ُ الخمسينية ُ
ـ[شاكر الغزي]ــــــــ[09 - 09 - 2006, 08:44 م]ـ
المقامة ُ الخمسينية ُ
حدثنا عبدالله ابن آدم َ بكلام ٍ طويل ٍ، كان بعضُه ُ شفاءَ العليل ِ، وبعضُهُ الاخرُ الموتُ الزؤامُ، لكثرة ِ ما فيه من المآسي والآلام ِ، فعلقَ في متاع ِ الفكر ِ ما أحببتُ استماعَهُ، وأسقطتُ منهُ رديء َ البضاعة ِ، فليس َ كل ُ كلام ٍ يؤخذ ُ، ولا كلُ سكين ٍ تشحذ ُ، وربّ َ جرح ِ قولة ٍ، آلمَ أكثر َ من جرح ِ مدية ٍ:
رُب ّ قول ٍ يجرحُ المرْءَ ويفْعَلُ * ما يفْعلُه ُ حز ّ المُدى
وكانَ ممّا قال َ: دعاني بعض ُ الصحابة ِ والاخوان ِ، في احدى ليالي شهر ِ رمضان َ، للإفطار ِ عندهم، والاستئناس ِ معَهم، وكان ميقاتُنا أكثرَ بقعة ٍ طهارة ً، نُؤمّ ُ فيه ونَؤمّ ُ داره ُ، وبينا آذنتنا الشمس ُ بالغياب ِ، وقبلت ذروتُها جبينَ التراب ِ، وبذلَ المؤذنُ في الترجيع ِ مستطاعَهُ، قمنا الى صلاة ِ المغربين ِ جماعة ً، ولمّا فرغنا من التسبيح ِ والتشهّد ِ، قصدنا دارهُ وتركنا المسجِدَ،وبينا كنا نسيرُ في الازقّة ِ المعبّدة ِ، واذ ْ بالصُحْب ِ كأنهم خُشُبٌ مسنّدة ٌ، اذ بهرهم جميلُ المنظر ِ، وحُسْنُ الصور ِ، من أزقّة ٍ مُنظّفة ٍ، وقصور ٍ مزخْرفة ٍ، قد نظمت في أبهى ترتيب ٍ، يغيض ُ المعادي ويسر ّ الحبيبَ، حيثُ القصور ُ وقد زانتها الاضواء ُ، كأنها كواكب ٌ دُريّة ٌ في أفُق ِ السماء ِ، فأهاج َ منظرُها الرهيبُ كوامنَ نفسي وسحر َ بياني، وكأنما نفثَ روحُ القُدُس ِ على لساني، فأنشدت ُ:
قصور ٌ تسرّ العين َ رؤيتُها لما * بها من بديع ِ الصُنع ِ، نقْش َ الطنافس ِ
وقدْ زادها حُسناً ظلام ٌ مُخيّم ٌ * كما زادَ حُسْنَ البيض ِ، سودُ الملابس ِ
حتى اذا وصلنا الى قصره ِالمعمور ِ، الذي لا يقلّ شأناً عن تلكَ القصور ِ، قالَ بعض ُ الصِحاب ِ
اذ ِ انبَهَر َ: أتمدحُ النجوم َ وتترك ُ القمر َ، فقلتُ:
وبيت ٍ حباه ُ الحُسْنُ من كل ّ جانب ٍ * بأظرفه ِ، أيّ الجوانب ِ أحْسَنُه ْ؟
اذا قيلَ لي: ما الحسنُ عندكَ يا فتى؟ * لقتُ لهم: ذا الحسنُ عنديَ مَعْدِنُه ْ
ثم ّ دخلنا في دهليز ٍ طويل ٍ، علا جانبيه ِ الزجاج ُ الصقيل ُ، فأجاءنا الدهليز ُ الى باب ٍ مُحْكم ِ الصنع ِ متين ٍ، كُتِبَ عليه: (ادخلوها بسلام ٍ آمنين َ)، فأيقنتُ أن الجنّة َ وراء َ الباب ِ، وأنّ بانتظارنا فيها حسنَ الثواب ِ، ولمّا فُتِحَ الباب ُ، واذا بالعَجَب ِ العُجاب ِ، حيث ُ الزرابي ّ المبثوثة ُ، والنمارق ُ المصفوفة ُ، والاكواب ُ الموضوعة ُ، والسُرُرُ المرفوعة ُ، والجدرانُ المشيّدة ُ بالآجُر ِ، والمزينة ِ بالحجر ِ النادر ِ، فقلتُ: يا صاحب َ هذا المكان ِ، هذه الجنة ُ فأين َ رضوان ُ؟ فضحك َ هو َ والجميع ُ، وقال َ في صوت ٍ رفيع ٍ، صدقت َ، إنّ لي ابناً اسمُهُ رضوان ُ، أمرتُهُ أن ْ يرتب َ الافطار َ غلى الخوان ِ، فقلتُ: أنْ كان َ هذا المكانُ لنا المأوى، فلا شكّ أنّ طعامُنا المنّ والسلوى، فضحكوا مرة ً أخرى، وجاءت ِ الخوان ُ تترى، يحملُها بيض ُ الولدان ِ، وفي مقدمتهم رضوانُ، وكان َ شاباَ بهي ّ المنظر ِ، فلم ندر ِ شُغِفْنا به ِ أم بها أكثر ُ، ولا أستطيع ُ وصف َ تلك َ المائدة ِ،العظيمة ِ، لأني لم ار َ كمثْلها وليمة ً، ولو كان َ الرجل ُ من بني مريم َ العذراء ِ، لقلتُ بأنّ المائدة َ أنزلت من السماء ِ، وجُل ّ ما أستطيع ُ قولَهُ:
ومائدة ٍ تحتوي خُونُها * على كل ّ كا تشتهي الأنفس ُ
شربنا هنيئاً وذقنا مريئاً * فطبنا وطاب َ لنا المجلس ُ
ولمّا فرغنا من الطعام ِ، وتطارحنا الحديث َ والكلام َ، جاءنا الفستقُ واللوْز ُ، وتمر ُ الهند ِ والجَوز ِ، فقلت ُ لمن شرّفنا بزيارته ِ، وأكرمنا بحسن ِ ضيافته ِ: تعلّم ْ بأن ّ الله َ أنعم َ عليك َ، وأكثرَ فضلَهُ لديكَ، ليرى أتشكرَه ُ أم تكفرَه ُ، فانْ شكرتَ فبالشكر ِ تدوم ً النعَم ُ، وأنْ كفرتَ استحال َ الوجود ُ الى عدم ٍ،ولا يغرّنْكَ الأصحاب ُ وأن كثروا، فقد اختار َ موسى قومَهُ سبعين َ رجلاً ثم ّ كفروا، ولا يصُدّنك َ زخرف ُ مدح ِ الطُرّاق ِ، عن شكر ِ الواهب ِ الرزاق ِ، واعلم ْ أنّ بعض َ الناس ِ يُصاحبون َ دنانير َ الرجل ِ ودراهمَهُ، ومشاربَهُ
¥