ها أناذا عدت كما وعدت لهذه القصيدة الرائعة, وهي على بحر الخفيف\ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن\, وليس النقد, كما يحسبه أقوام, مجرد استخراج
العيوب والنقائص, بل النقد استخراج النفائس والدرر كذلك. وأسلوبي فيه هو المرور بيتا بيتا وتحليله بناء على ما سبقه. وليعلم الأخ الشاعر أن ما سأقوله مجرد رأي ربما أصيب فيه وربما أخطئ وأن قولي خطأ يحتمل الصواب وقوله صواب يحتمل الخطأ. وأن ما أفعله ليس استعراض مقدرات بل محاولة للإرشاد والتبصير.
في قبضة الصمت
ألجم الصمت منطقي، ونشيدي
وهْو يجتاح خافقي، ووريدي
فعل: \ألجم\, مشتق من اللجام, وهو معروف
كلمة \منطقي\ تحمل معنيين, وهما يشاركان هنا تصوير صورتين مختلفتين,
أولاهما إذا أخذنا كلمة \منطقي\ على معنى \المنطق وعلم المنطق\ الذي ترجم العرب اسمه من اليونانية القديمة \ logos\ ومعناه \ما بلفظ وينطق\ ولذلك اختار العرب كلمة \منطق\ ولو ربطت هذه الكلمة ومعنى \ألجم\ ذكرني ذلك بكتاب \إلجام العوام عن علم الكلام\ للغزالي القديم, لأن في الإلجام معنى الإيقاف والحد, كما تلجم الفرس حتى يتحكم فيها فتقف إذا شد اللجام, ولذلك سمى الغزالي كتابه كي يلجم العامة عن المضي والتقدم في علم الكلام فيقفوا. ولعل في هذه الصورة شدة, هي شدة الصمت الذي يلجم الأنا عن التقدم في المنطق, أي يلجم عقله عن المضي بعيدا.
والصورة الثانية هي على معنى \ملفظي\ أي المعنى المجرد من الكلمة \منطقي\ أي \أسكتني الصمت فلا أستطيع النطق\ ويؤيد هذه الصورة كلمة \نشيدي\ أي أسكت الصمت نشيدي فلست منشدا.
وصورة الصمت وهو \يجتاح\ وفي الاجتياح صورة القوة والكثرة, مثلما تجتاح الجيوش الدول وتجتاح السيول الأرض, فتكون المهيمنة المتمكنة المتملكة.
و\الخافق\ هنا كناية عن القلب الذي يخفق ويمد \الأوردة\ بالدم, فإذا اجتيح هذان فقد اجتيح كل الجسم, فتسري جيوش الصمت في العروق وقد تحكمت في الوحدة المركزية \القلب\.
مطبقا؛ تطرق الحروف لديه
في خفوت، ورجفة، وهمود
بعد \الاجتياح الصمتي\ وتمكنه من الأنا وإلجامه إياه عن النشيد والكلام فباتت الحروف في قبضته, وهي مطرقة (تأملت لو شكلت الحروف في قصيدتك حتى لا تختلط الكلمات, فـ\تطرق\ أخذتها على معنى \الإطراق\ ولم أأخذها على معنى \الطرق\) خاضعة لهيمنته خافتة مرتجفة هامدة. قد صورت هنا حالة الحروف فلماذا استعملت الفعل المضارع؟ تصوير الحالة يتأتى بفعل الماضي أو اسم الفاعل الدال على الحالة, مثل \حروف مطرقة\ لأن المضارع يدل على استمرار الفعل, في حين الإطراق مرة واحدة, ما دام فيه خفوت ورجفة وهمود. ثم إن \الهمود\ عكس \الرجفة\ فالمرتجف ليس هامدا, أم أنك صورت مراحل الإطراق؟ أي خفوت ثم رجفة ثم همود؟
واستكانت الحروف للصمت وخضعت له, فهمدت بعد أن كانت تريد لتُنشَد, والنشيد دال على الحركة والصخب والأصوات العالية, فإذ بالصمت يخضعها لسطوته فتهمد وتصمت.
ممعنا، والقيود طوع يديه
آه من أسره وأسر القيود!!
في هذا البيت والذي يليه تكرار للمعنى المذكور آنفا وهو سيطرة الصمت وسطوته على الأنا والحروف وإخضاعهما له.
ملقيا في أفقي الشجيِّ وجوما
يتلظى؛ كلفحة الأخدود!
وددت أن أذكر التلميح للأخدود, وهو هنا أخدود فيه نار تلفح, وذلك يذكرنا بقصة أصحاب الأخدود في الذكر الحكيم, وكيف أن الملك الكافر ألقى المؤمنين في نار أضرمها حتى لا تصل كلمة التوحيد إلى غيرهم, والتفاسير تذكر ذلك.
وصورة الوجوم المتلظي صورة غريبة, لأن التلظي دلالة على الحركة, فالنار التي تتلظى تلقي الشرر وترتفع وتحرق وتلفح, فكيف إذن يكون الوجوم مثل النار؟ في حين أن الصمت أخمد كل شيء وفرض الخفوت والسكون وأوقف كل حركة. وليس واضحا كيف ربطت بين الوجوم والتلظي.
محكما قبضتيه حولي؛ كأني
هارب حاصرته كل الحشود
تكرار لمعنى سطوة الصمت على الأنا. لكن هناك اضطرابا في الصورة, لأن إحكام القبضتين لا يعني الهروب, أي إذا أحكم الصمت قبضتيه فليس الأنا مثل هارب حاصرته الحشود, فالحشود تحكم الحصار ولا تحكم القبضة حسب تعبيرك, أي لم تمسك الأنا بعد, في حين أن إحكام القبضتين يعني أن الممسوك أو الأنا بينهما وهما تمسكان به.
أو سجين مكبل بظلام
يحتوي دربه بغير حدود:
صورة السجين صورة جميلة لأن كبالاته هي الظلام الذي يدل على الصمت, لأن الصمت في الصورة العامة مقترن بالليل والليل هو الظلام. ولا أحد يستطيع أن يهرب من الليل وظلامه, الظلام غير المتناهي.
لكن كلمة \دربه\ أربكت الصورة, لأن السجين لا درب له, ولا طريق له يسلكها, بل هو سجين مغلق عليه في ظلام دامس. في حين أنت صورته كأنه يمشي في درب احتواه الظلام, أم أنه درب مجازي, أي مستقبله, مستقبل احتواه الظلام فليس فيه ما يرى ويشاهد, وهذه حال السجناء.
فمسائي مؤرق بانتظار
لصباح محرق مهدود
مساء مؤرق بانتظار صباح حارق. عذاب في الحالتين. ولكن تزعجني كلمة \مهدود\ فالصباح فاعل \محرق\ ثم جعلته مفعولا به \مهدودا\ فما الذي هدّه؟ ثم إن صورة الحريق والنار ذكرت في الأخدود, فلماذا تكرارها؟
وغدوّي مكلل بذهول
ورواحي مجلل بشرود
ولياليِّ تكتوي بأنين
يتنزي في قلبي المخضود
لابد هنا أن نربط الأزمان ببعضها. فقولك أن المساء مؤرق فيتبعه صباح محرق ثم غدو مذهل ثم رواح مشرد ثم ليل مئنن. أعجبني هذا التسلسل إذا عنيته. فبعد الأرق يأتي الحريق الذي تذهل منه العقول فيصير الأنا شريدا وقد أحرقه الصباح فيأتي عليه الليل وهو يئن ولا يستطيع النوم فيسبب ذلك الأرق, وهكذا دواليك.
القلب المخضود, قلب جريح ينزف.
أعجبني الجناس في \مكلل\ و\مجلل\ والتناظر التركيبي في البيت.
هذا الجزء الأول ويتبعه الجزء الثاني بإذن المولى.
¥