أعني أن النعرة القبلية التي ترفض ما اتسم به المجنون من سمات اللوثة الجنون هي التي جعلتهم ينكرون وجوده، فالشاعر من قبيلتهم ولذلك كان من الحتم اللزام عليهم أن يرفضوا ما يقال عنه لأن ما يصيبه يلحق الأذى بالقبيلة ولذلك أنكروه.
واذا كنا في عصرنا الحديث نرفض الحب بالصورة التي اتسم بها الشاعر حيث لا يرتدى من الثوب الا خرقة، ويسير في الطرقات هائما عاريا، يلعب بالتراب والحصى مع الأطفال، يهذي ويخطط في الأرض، وهذا ثابت في روايات صاحب الأغاني.
أقول اذا كنا في مجتمعنا المعاصر نرفض الحب بهذه الصورة، فما نظن أن قبيلة الشاعر، ذات الأكباد الغليظة، والعقول الراجحة تؤمن به.
أعني، أن الذين زعموا انكاره، من أبناء قبيلة بنى عامر التي ينتسب اليها، يجعلنا نؤمن بحقيقة وجوده.
أما عن قصة المجنون كما وردت في كتاب الأغاني، فقد ذكرت الروايات أنه أحب "ليلى" ابنة عمه التي تكنى "أم مالك" منذ صباهما، وتحرك قلب كل منهما نحو الآخر أثناء رعيهما غنم أهلهما، ولم يزالا على الحب حتى كبرا ومنعهم والدها المهدى من التقرب اليه فقال قيس:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم ياليت أننا
الى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وكان احتجابهما عنه من الأسباب التي أدت الى اختلاط عقله، فأصيب بلوثا، وراح يسلك السلوك الطفولي، ويسير عاريا في البيداء، يخطط في الأرض ويلعب بالحصى والتراب.
ويمر عامل الصدقات، ويطلب من أحد الغلمان أن يأتيه بثياب ليلقى به عليه، ويصاب الرجل بالدهشة عندما يعرف حقيقة العاشق الدنف الذي صيره الحب الى ما هو عليه، فيعده بزواجهما، وانطلق معه الى أهلها لخطبتها له، لكن أفراد القبيلة وقفوا بأسلحتهم سدا منيعا دون حلم لمجنون فيقول قيس:
أيا ويح من أمسى تخلس عقله
فأصبح مذهوبا به كل مذهب
خليا من الخلان الا معذرا
يضاحكني من كان يهوى تجنبى
اذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
عوازب عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة
ولا الهم الا افتراء التكذب
وشاهد وجدى دمع عيني وحبها
يرى اللحم عن احناء عظمى ومنكبي
تجنبت ليلى أن يلج بك الهوى
وهيهات كان الحب قبل التجنب
ولم أر ليلى بعد موقف ساعة
ببطن منى ترمى جمار المحصب
ويبدى الحصى منها اذا قذفت به
من البرد أطراف البنان المخضب
وأصبحت من ليلى الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
الا انما غادرت يا أم مالك
صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وكبر على والد المجنون واهله حاله، وساءهم ما وصل اليه، فقد ينتهي به الى ما هو أشد، وقرروا الاجتماع الى المهدى لعله يتعاطف معهم ويجمع شمل العاشقين، وأخبروه باختلاط عقل ابن أخيه وأنه هالك ان لم يزوجه ابنته لكنهم لم يجدوا منه الا الفظاظة وغلظة الكبد بل حلف بطلاق امها أنه لم يزوجه اياها، فقد فضحه وأهله بين العرب، حتى اذا ما نبأ القوم العاشق بالخبر اشتد به البلاء وزال عقله جملة. فأشار رجال العشيرة الى أبيه أن يحجج به الى مكة ويتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله أن يبغضها اليه ويخفف عنه، وبمنى أنشد المجنون يقول:
عرضت على قلبى العزاء فقال لي
من الآن فايأس لا أغرك بالصبر
اذا بان من تهوى وأصبح نائيا
فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا اذ نحن بالخيف من منى
فيهج أطراب الفؤاد وما يدرى
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه
وليلى بأرض عنه نازحة قفر
وعلق قيس بأستار الكعبة، ولكنه طلب من الله أن يزده بليلى حبا، ولا ينسيه ذكرها أبدا.
وراح يهيم في البيداء مع الوحوش حتى ظنته واحدا منها، ولم لا وقد كان مطعمه ما تجود به البرية من أعشاب، شأنه في هذا شأن الحيوانات، وتأسى أمه له، وتذهب والألم يملأ فؤادها الى ليلى برجاء، وتخبرها بأن حبها قد أزال عقله جملة، وأنه هجر الطعام والشراب، وانها تود أن تأتي اليه لتطلب منه أن يثوب عقله، وتشير اليها بأنها ستزوره في الليل حتى تكون بعيدة عن أعين أهل عشيرتها، وتلتقي به ليلى، وترجوه ان يتقى الله ويثوب فقد ساءها أن تكون سببا فيما حدث له، فيبكي قيس ويقول:
قالت جننت على رأسي فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وانما يصرع المجنون في الحين
¥