وتبكي ليلاه معه، وظل يتحدثان حتى الفجر ثم ودعته وانصرفت. وبرغم اللوثة التي أصابته، وبرغم اختلاط عقله وهيامه في البرية، فقد راح يحن الى ذكرياته الحلوة مع ليلى والتي شهدتها أيام صباهما، وأحب هذه الذكريات تلك الأوقات التي كان يقضيها معها عند جبل التوباذ عندما كانا يرعيان غنم أهلهما وكثيرا ما كان يجيء ذلك الجبل ويقيم فيه، وكثيرا ما قابلته الصعوبات والعوائق من أجل الاهتداء اليه عندما توحش، فكان يسأل الناس المكان ليرشدوه، فاذا ما وقع على الجبل راح ينشد أشعاره.
وليلى عند قيس فتاة فاتنة، تقصد في كلامها، وتتسم بالحياء، وهي رائعة الحسن والخلقة، وقد نعتها بهذه الصفات عندما جلست نسوة اليه، تستفسرن منه عن الأسباب التي دعت الى لوثته بسبب حبه لها، والصفات التي انفردت بها عن غيرها من النساء، فهم في حيرة، كيف يصل به الحب الى اختلاط عقله، وليلاه امرأة كسائر النساء، فلو ثاب عقله وصرف هواها الى احداهن لاسترد عقله وآدميته، فيرد عليهن قائلا عنها.
بيضاء خالصة البياض كأنها
قمر توسط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد
ان الجمال مظنة للحسد
وترى مدامعها ترقرق مقلة
سوداء ترغب عن سواد الاثمد
خود اذا كثر الكلام تعوذت
يحمى الحياء وان تكلم تقصد
ويمر المجنون بحي ليلى، ويلقاها فجأة، فما كان يقع بصره عليها حتى سقط مغنيا على وجهه، وأسرع رجال العشيرة وقد ظنوا أن قيسا أراد السوء بابنة القبيلة. لكن ليلى تطلب منهم العطف عليه، وبعثت اليه بامرأة تخبره بأنها تفديه بروحها لو كان فيها شفاء له، ويخبرها قيس بانها داءه ودواءه، وانه ملك يديها، وراح يبكي منشدا:
أقول لأصحابي هي الشمس ضوءها
قريب ولكن في تناولها بعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة
على كبدي من طيب أرواحها برد
فمازلت مغشيا علي وقد مضت
أناة وما عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بعولة
يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبق الا الجلد والعظم عاريا
ولا عظم لي ان دام مابي ولا جلد
أدنياي مالي في انقطاعي وغربتي
اليك ثواب منك دين ولا نقد
وقد يبتلي قوم ولا كبليتي
ولا مثل جدك في الشقاء بكم جد
غزتني جنود الحب من كل جانب
اذا حان من جند قفول أتى جند
ويشتد الداء بالمجنون وينتهي به الى الموت، فتبكيه الفتيان والفتيات من عشيرته وأهل ليلى، وينشجونه أشد النشيج، وحضر حيها ومعهم والدها يقدمون العزاء.
كان "المهدى" أشد المعزين جزعا وأحرهم بكاء، وأشار والآسى يحز في نفسه بأنه يحس بالندم، ولو علم أن الحب سيصل به الى كل هذا لأحتمل ألسنة العرب وما أخرجها عن يده.
واذا ما قلب الفتيان والعشيرة المجنون بعد أن قضى نحبه، وجدوا خرقة فيها هذه الأبيات.
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى
شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا
شقيت كما اشقيتني وتركتني
أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخالب طائر
اذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
علي فما تزداد طولا ولا عرضا
هذه هي قصة مجنون بن عامر الذي أهلكه الحب وأفقده عقله جملة وقاده الى التهلكة، وهي من قصص الحب العذري التي أنتشرت في العصر الأموى، وتذكرنا بعض أحداثها وخاتمتها بقصة (روميو وجوليت) لشكسبير، فكلاهما من قصص الحب العذري. وان كان لليلى والمجنون قصب السبق فقد وقعت أحداثها في القرن الثاني للهجرة بينما نظم الشاعر الانجليزي مسرحيته في عصر النهضة أو بالأحرى في اواخر القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تركت قصة المجنون بصماتها في انتاج الأدباء من العرب والمسلمين في العصر الحديث نخص بالذكر منهم الشاعر أحمد شوقي الذي نظم "مجنون ليلى" وهي صورة مستوحاة من قصة المجنون التي وقعت في العصر الأموي.
وضمن شوقي في هذه المسرحية الكثير من الأحداث التي ذكرها صاحب الأغاني عن قيس وليلاه.
ومن الأحداث التي تأثر بها شوقي وذكرها صاحب الأغاني وقوف قيس على خيام ليلى وديارها.
سجا الليل حتى هاج لي الشعر والهوى
وما البيد الا الليل والشعر الحب
ملأت سماء البيد عشقا وأرضها
وحملت وحدي ذلك العشق يا رب
ألم على أبيات ليلى بي الهوى
وما غير أشواقي دليل ولا ركب
وباتت خيامي خطوة من خيامها
فلم يشفني منها جوار ولا قرب
اذا طاف قلبي حولها جن شوقه
كذلك يطفى الغلة المنهل العذب
يجن اذا شطت ويصبو اذا دنت
فيا ويح قلبي كم يحن وكم يصبو
¥