ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هى التى تعيننا على أن نتصور أن شاعرا عربيا قديما قال هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس فى رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها.
وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذى يتصل! بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذى لا يفسر سيرته ولا يتصل بها.
ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان: الأولى: " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " والثانية " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي " فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف فيه يكادان يلمسان باليد.
وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدرى كيف تتخلص منها أنصار القديم، وهى أن امرأ القيس - إن، صحت أحاديث الرواة - يمنى، وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن فى لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام.
ونحن نعلم - كما قدمنا - أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره فى لغة أهل الحجاز؟
بل فى لغة قريش خاصة؟
سيقولون: نشأ امرؤ القيس فى قبائل عدنان وكان، أبوه ملكا على بنى أسد وكانت أمة من بنى تغلب وكان مهلهل خاله، فليس غريبا ان يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن.
ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذى ينسب إلى امرئ القيس.
ونحن بشك فى هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل.
وإذا فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس الذى نشك فيه.
على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيدا فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هى، اللغة السائدة فى البلاد العربية أيام امرئ القيس؟
وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب فى ذلك الوقت، وأنها إنما أخذت تسود فى أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا.
وإذا فكيف نظم امرئ القيس اليمنى شعره فى لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة فى العصر الذى عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقا فى شعر أمرؤ القيس لفظا أو أسلوبا أو نحوا من أنحاء القول يدل على أنه يمنى.
فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغه عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محوا تاما ولم يظهر لها أثر ما فى شعره؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة فبل أن تحل هذه المشكلة.
على أننا نحب أن نسأل عن شئ أخر؛ فامرؤ القيس ابن أخت مهلهل وكليب ابنى ربيعه - فيما يقولون -، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين، هى قصة البسوس وهذه الحرب التى اتصلت أربعين سنة - فيما يقولون القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب.
فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب، ولا إلا بلاء خاله مهلهل، ولا إلى هذه المحن التى أصابت أخواله من بنى تغلب، ولا إلى هذه المآثر التى كانت لأخواله على بنى بكر.
وإذا فأينما وجت فلن تجد إلا شكا: شكا فى القصة، شكا فى اللغة، شكا فى النسب، شكا فى الرحلة، شكأ فى الشعر.
وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله قد رزقنا هذا الكسل العقلى الذى يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد.
ولكن الله لم لرزقنا هذا النوع من الكسل، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث.
وهذا البحث ينتهى بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذى يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس فى شئ وانما هر محمول عليه حملا ومختلق عليه اختلاقا، حمل بعضه العرب نفسهم، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر فى القرن الثاني للهجرة.
ولننظر فى المعلقة نفسها، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعمل أكثر مما يظهران فى هذه القصيدة.
لا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو فى الدفاتر.
فما نظن أن أنصار القديم يحفلون بهذه القصة التى نشأت فى عصر متأخر جدا والتي لا يثبتها شئ فى حياة العرب وعنايتهم بالآداب.
¥