ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون فى بعض هذه القصيدة فهم يشكون فى صحة هذين البيتين:
ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنطل
وهم يشكون فى هذه الأبيات:
وقرية أقوام جعلت عصامها
على كاهل منى ذلول، مرحل
رواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوى كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا
قليل الغنى إن كنف لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وهم بعد هذا يختلفون اختلافا كثيرا فى رواية القصيدة: فى ألفاظها وفى ترتيبها، ويضعون لفظا مكان لفظ وبيتا مكان بيت.
وليس هذا الاختلاف مقصورا على هذه القصيدة، وانما يتناول الشعر الجاهلى كله.
وهو اختلاف قد أعطى المستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤلف، وأن الوحدة لا وجود لها فى القصيدة وان الشخصية الشعرية لا وجود لها فى القصيدة أيضا، وأنك تستطيع أن تقدم وتؤخر وان تضيف الى الشاعر شعر غيره دون أن تجد فى ذلك حرجا أو جناحا مادمت لم تخل بالوزن ولا بالقافية.
وقد يكون هذا صحيحا فى الشعر الجاهلى، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة.
فأما الشعر الاسلامى الذى صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يعبث به أقل عبث دون أن يفسده.
وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بيئة، وان شخصية الشاعر فيه ليست اقل ظهورا منها فى أي شعر أجنبي.
إنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر الجاهلى نموذجا للشعر العريى؟ مع أن هذا الشعر الجاهلى - كما قدمنا- لا يمثل شيئا ولا يصلح إلا نموذجا لعبث القصاص وتكلف الرواة.
ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون فى أن هذين البيتين قلقان فى القصيدة وهما:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
على بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذى يليهما وهو:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شئ آخر.
فإذا فرغنا من هذا الشعر الذى لا نكاد نختلف فى أنه دخيل فى القصيدة، فقد نستيطع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى.
وهذه الأجزاء هى: أولا وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته، ثم ذكر- الليل والاستطراد منه إلى الصيد وما يتوسل به إلى الصيد من وصف الفرس، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل.
ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرذدق منه بأن يكون جاهليا.
فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق خرج فى يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثارا حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن، فمال: ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل، وولى منصرفا؛ فصاح النساء به: يا صاحب البغلة؛ فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث دارة جلجل؛ فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله:
إلا رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل
والذين يقرءون شعر الفرذدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة فى أن يضيفوا إليه هذه الأبيات، فهي بشعره أشبه.
وكثيرا ما كأن القدماء يتحدثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها الى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم.
ومهما يكن من شئ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية.
أما وصف امرئ القيس لخليلته " وزيارته إياها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها، وما كان بسنهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبى ربيعة منه بأى شئ آخر.
فهذا النحو من القصص الغرامى فى الشعر، فن عمر بن أبى ربيعة قد احتكره احتكارا ولم ينازعه فيه أحد.
ولقد يكون غريبا حقا أن يسبق امرؤ القيس الى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتى ابن أبى ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد الى أن ابن ابى ربيعة قد تأثر بامرئ القيس مع أنهم قد أشاروا الى تأثير امرئ القيس فى طائفة من الشعراء فى أنحاء من الوصف.
¥