فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذى عاش عليه ابن أبى ربيعة والذي كون شخصية ابن أبى ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك؟
وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبى رييعة لم تكد نشك فى أن هذا الفن فنه ابتكره ابتكارا واستغله استغلالا قويا، وعرفت العرب له هذا.
وقل مثل هذا فى هذا القصص الغرامى الذى تجده فى قصيدة امرئ القيس الأخرى: " ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي ". ففي هذا القصص الفاحش فن ابن أبى رييعة وروح الفرزدق.
ونحن نرجح إذا أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف الى امرئ القيس، أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين.
بقى الوصف، ولاسيما وصف الفرس والصيد.
ولكننا نقف فيه موقف التردد أيضا.
واللغة هى التى تضطرنا الى هذا الموقف.
فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ فى وصف الخيل والصيد والسيل والمطر.
والظاهر أنه قد استحدث فى ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل.
ولكن أقال هذه الأشياء فى هذا الشعر الذى بين أيدينا أم قالها فى شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جمل مقتضبة أخذها الرواة فنظموها فى شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟
هذا مذهبنا الذى نرجحه.
فنحن نقبل أن امرأ القيس وهو أول من قيد الأوابد، وشبه الخيل بالعصى والعقبان وما إلى ذلك، ولكننا نشك أعظم الشك فى أن يكون قد قال هذه الأبيات التى يرويها الرواة.
وأكبر الظن أن هذا الوصف الذى تجده فى المعلقة وفى اللامية الأخرى فيه شئ من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير.
هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالا.
وهى القصيدة البائية التى يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها علقمة بن عبدة الفحل، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلبت علقمة على زوجها. وأنت تجد القصيدتين فى ديوان امرئ القيس وديوان علقمة. فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها:
خليلي مرا بي على أم جندب
نقض لبانات الفؤاد المعذب
وأما قصيدة علقمة فمطلعها:
ذهبت من الهجران لي في كل مذهب
ولم يك حقا كل هذا التجنب
ويكفى أن نقرأ هذان البيتين لنحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة.
على أن النظر فى هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها فى القصيدتين معا، وعلى أن البيت الذى يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لامرئ ا لقيس، وهو:
فأدركهن ثانيا من عنانه
يمر كمر الرائح المتحلب
والبيت الذى خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو:
فللسوط ألهوب وللساق درة
وللزجر منه وقع أهوج منعب
وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقا بين شخصية الشاعرين، بل أنت لا تجد فيهما شخصية ما، وانما تحس أنك تقرأ كلاما غريبا منظوما فى جمع ما يمكن جمعه من وصف الفرس جملة وتفصيلا.
وأكثر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس، وأن أم جندب لم تحكم بسنهما، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية فى شئ، وانما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التى أشرنا فى الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال.
وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها: أيهما اقدر عليه وأحذق به.
وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما آثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة.
وهنا وقفة أخرى لابد منها. ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وانما يذكر معه من الشعراء علقمة-كما رأيت - وعبيد ابن الأبرص.
فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئا إلا مفاخرته لامرئ القيس ومدحه ملكم من ملوك غسان ببائيته التى مطلعها:
طحا بك قلب لحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره، وإلا انه مات بعد ظهور الإسلام اى فى عصر متأخر جدا بالقياس إلى امرئ القيس الذى مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبى. والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضا.
وأما عبيد فقد التمسنا فى سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جدا.
¥