ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذى وقفناه من امرئ القيس وشعره وليس علينا فى ذلك ذنب، فالرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق.
إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات، كان صديقا للجن والسماء معا، عمر عمرا طويلا يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات ميتة منكرة: قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء فى لوم بؤسه.
والرواة يعرفون شيطان عبيد.
واسم هذا الشيطان هبيد، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل: " لولا هبيد ما كان عبيد ".
وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناسا غير عبيد فلم يوفق.
ولعبيد مع الجن أحاديث لا تخلو من لذة وعجب.
ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئا ولا يبعث الاطمئنان إلا فى انفس العامة أو أشباه العامة.
فأما شعر عبيد فليس أشد من شخصيته وضوحا.
فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع.
وابن سلام يحدثنا فى موضع من كتابه " طبقات الشعراء "، أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر، ولكنه يحدثنا فى موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
ثم يقول ابن سلام: ولا أدرى ما بعد ذلك. ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعرا آخر فى هجاء امرئ القيس ومعارضته، وفى استعطافه حجر على بنى أسد.
ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التى قدمنا طلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها.
وحسبك أته يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتها القرآن فيقول:
والله ليس له شريك
علام ما أخفت القلوب
فأما شعره الآخر الذى عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظ له من صحة فيما نعتقد.
وذلك أن فيه إسفافا وضعفا وسهولة فى اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم. ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة النى أولها:
يا ذا المخوفنا بقت
ل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت انك قد قتلتت
ت ستراتنا كذبا ومينا
لتعرف أنها من عمل القصاص، وأن هذا الشعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية.
ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشر ووضعنا يدك على مواضع التوليد فيه؟
ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر.
وإذن فكل شعر امرئ القيس الذى يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضا كشعر عبيد.
وقد رأيت من هذه الالمامة القصيرة بهؤلاء الشراء الثلاثة: (امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئا ولا تنفى شيئا بالقياس إلى العصر الجاهلى، لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين اثنتين لعلقمة: الأولى: " طحا بك قلب للحسان طروب " والثانية: " هل ما علمت وما استودعت مكتوم " فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شئ من التحفظ فى بعض أبيات القصيدة الثانية.
ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا فى الشعر الجاهلى فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جدا، وأنه مات بعد ظهور الإسلام، ورأيت أيضا أنه كان يأتى قريشا ويعرض عليها شعره.
على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك فى بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد، وهى هذه الأبيات التى يذهب فيها الشاعر مذهب؟ الحكمة وضرب المثل؟
3 - عمرو بوقميئة- مهلهل - جليلة
وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس.
كان أحدهما - فيما يقول الرواة صديقا له، صحبه فى رحلته فى قسطنطينية، ولم لعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرئ القيس، وهو عمرو اثن قميئة.
وكان الآخر خال امرئ القيس - فيما يقول الرواة - وهو مهلهل بن ربيعة.
ولابد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد.
ولنلاحظ قبل كل شئ أن بين امرئ القيس وعمرو بن قميئة شبها غريبا، فقد كان امرؤ القيس يسمى الملك الضليل.
وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيرا غير الذى اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة.
فقلنا إنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شئ، قلنا إنه ضل بن قل.
وكانت العرب تسمى عمرو بن قميئة عمرا الضائع.
¥