اعلم أن الفساد هو فساد المجادلة والمحاورة والتشبيه أو غير ذلك يقصده الشاعر، مثل قول امرئ القيس:
كأنيَ لمْ أركبْ جواداً لغارةٍ = ولم أتبطنْ كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الرويّ ولم أقلْ = لخيلي كري كرةً بعد إجفال
قال النقد: هذا فاسد، لأنه جعل الغزل مجاوراً للشجاعة في البيتين، والأجود مجاورة الشجاعة للشجاعة والغزل للغزل، فيقول:
كأني لمْ أركبْ جواداً ولم أقلْ = لخيلي: كري كرةً بعد إجفالِ
ولم أسبأ الزقَّ الرويَّ للذةٍ = ولم أتبطنْ كاعباً ذات خلخالِ
ومنه قول المتنبي:
وقفتَ، وما في الموتِ شكّ لواقفٍ = كأنك في جفنِ الردى وهو نائم
تمر بكَ الأبطالُ كلمى هزيمةً = ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
فقيل إن سيف الدولة قال للمتنبي: هذا فاسد المجاورة، لأنك أتيت بالتشبيه قبل ذكر المشبه، والأجود أن تقول:
وقفتَ، وما في الموتِ شكّ لواقفٍ = ووجهكَ وضاحٌ وثغرك باسمُ
تمر بكَ الأبطالُ كلمىَ هزيمةً = كأنك في جفن الرددى وهو نائم
فقال المتنبي: أيد الله مولانا الأمير أن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنإ ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه، ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاح، وثغرك باسم، لأجمع بين الأضداد بالمعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها، فأعجب سيف بقوله، ووصله بخمسين دينار من دنانير الصلات قيمتها خمسمائة دينار.
ومثل ذلك قول الفرزدق:
فإنك إن تهجو تميماً وترتشي = سرابيل قيسٍ أو سحوق العمائم
كمهريق ماءٍ في الفلاة وغره = سراب أذاعته رياحُ السمائم
وقال آخر:
فإني وتركي ندى الأكرمين = وقدحي بكفي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراءِ، = وملبسةٍ بيضَ أخرى جناحا
يجب أن يكون كل بيت من الأولين مع بيت من الآخرين.
ومن فساد الاستعارة قول أبي الشيص:
وللهوى جرسٌ ينفي الرقاد بهِ = فكلما رمتُ نوماً حركَ الجرسا
وفساد التفسير مثل قوله:
فيأيها الحيران في ظلمة الدجى = ومن خاف أن يلقاه بغي من العدى
تعال إليه تلقَ من نورِ وجهه = دليلاً ومن كفيه بحراً من الندى
هذا فساد التفسير، لأنه فسر البغي بالسماحة، وكان الواجب أن يفسره بالنصر، فيقول: نصر أسود الشرى.
ومن فساد التجنيس قول عبيد الله بن زياد: افتحوا سيفي يريك سلوه.
وقال آخر في يوم مطير: قد انقطع شريان الغمام.
وقال آخر:
إكسيرُ هذا الخلق يطرحُ واحداً = منه على ألفٍ فيكرم خيمه
وقول آخر:
أكابدُ منكِ أليمَ الألمْ =فقد نحل الجسمُ بعد الجسمْ
وقال أبو تمام:
من كان يعلمُ كيف رقةُ طبعهِ = هو مقسمٌ أن الهواءَ ثخينُ
ومنه أيضاً قوله:
ذهبتْ بمذهبه السماحةُ فالتوتْ = فيه الظنونُ أمذهبٌ أم مذهبُ
هذا فاسد لأنه يهدم المدح بنسبته إلى الوسواس.
وكذلك قول الشاعر:
لو رام يشبهه في جوده هرمٌ = لقيلَ في هرم قد جنَّ أو هرما
هذا فاسد لأنه لا يستقيم المدح بنسبته إلى الهرم والجنون.
ومن فساد القسمة قول جرير:
صارتْ حنيفةُ أثلاثاً فثلثهم = من العبيدِ وثلثٌ من مواليها
ومن فساد المقابلة قول الأخطل:
إذا التقت الأبطالُ أبصرت لونهُ = مضيئاً وألوانُ الكماة خضوعُ
وقول قيس بن الخطيم:
فسلوا ضريحَ الكاهنين ومالك = كمْ فيهمُ من دارعٍ ونجيبِ
ومن فساد التشبيه قول امرئ القيس:
عصافيرٌ وذبانٌ ودودٌ = وأجرأ من مجلحة الذئاب
فعجباً لهذا مع قوله:
إلى عرقِ الثرى وشجتْ عروقي = وهذا الموت يسلبني شبابي
أرانا موضعينَ لأمرٍ غيبٍ = ونسخرُ بالطعامِ وبالشرابِ
ومنه قول جميل:
لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ =حباً وصلتك أو أتتكِ رسائلي
وقول آخر:
يابن خير الأخيار من عبد شمسٍ = أنت غيثُ الدنيا وزينُ الجنودِ
فليس قوله: زين الجنود موافقاً لغيث الدنيا ولا مخالفاً له.
وكذلك قوله أيضاً:
رحماءٌ بذي الصلاح وضرا = بونَ قدماً لهامة الصنديد
لأن الصنديد لا يوافق ذوي الصلاح، وإنما الصواب هامة الشرير.