نعم قد صحح الحاكم بعضًا من تلك الروايات التي استند إليها، من نسب تلك الشنيعة إليه ?، لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار)).
ويفصح الآلوسي عن رأيه في تلك الروايات فيقول: ((وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عمَّا ذهب إليه المحققون الأخيار، إياك والهمّ بنسبة تلك الشنيعة إلى ذلك الجناب، بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك، فرأيت برهان ربك بلا حجاب)) ().
هذا مجمل ما قاله المفسرون في نقد تلك الروايات التي نسبت إلى النبي يوسف ? مما يخدش بمقام النبوة، ومن الواضح من مجموع كلامهم أنهم لا يعتقدون بصحتها ولا بنسبتها إلى أحد من السلف ?، لأنها تتعارض مع عقيدة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم السلام، وكذلك لأن تلك الروايات تخالف ظاهر سياق الآيات للقصة المذكورة.
وإن الروايات التي ساقها الطبري تتعارض مع القرآن والعقل، وإن جلّ هذه الروايات توجه الاتهام إلى نبي الله يوسف بأنه جلس بين شعبها الأربع، وفي بعضها نزع ثيابه فهو بحسب ظاهرها توجه إلى يوسف أنه وقع في الحرام أو حام حوله، وعليه فلا يمكن تصديق مثل هذه الروايات من الوقاحة التي تطعن عرض نبي معصوم، فلا يمكن نقلها فضلاً عن التصديق بها، وقد بينت ضعف إسناد الروايات المتقدمة، وأما متنها فإن فيها من التناقض والكذب ما أشرنا إليه، ولقد أصاب كبد الحقيقة ابن عاشور إذ قال: ((وبذلك يظهر أن يوسف ? لم يخالطه همّ بامرأة العزيز، لأن الله عصمه من الهمِّ بالمعصية، بما أراه من البرهان)) (). وقد فرق ابن عاشور بين همّها وهمّه في قوله: ((? ولقد همت به ? جملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًّا، والمقصود أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة، والمقصود من ذكر همِّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها، لبيان الفرق بين حاليهما في الدين، فإنه معصوم)) ().
ومن الذين نقدوا متن هذه الروايات محمد رشيد رضا إذ يقول: ((ولم يستح بعضهم أن يروي أخبار اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه واسرافه في تنفيذه وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه ما لا يقع إلا من أوقح الفساق المسرفين)) (). ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية، إلا أنها تركت أسوء الآثار في أنفسهم، مما جعل البعض يسلم بأن (الهم) من الجانبين كان بمعنى: العزم على الفاحشة.
ويمضي صاحب المنار في رد الروايات المكذوبة على نبي الله يوسف ?: ولا يغرنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين، فلو لم يكن لنا من الأدلة على وضعها عليهم أو تصديقهم لقول بعض اليهود فيها، إلا بطلان موضوعها في نفسه، وكونه من علم الغيب في القصة التي لم يعلم رسول الله ? منها غير ما قصه الله تعالى عليه في هذه السورة، كما صرح به في الآية ()، ثم ذكر عدة أدلة من القرآن والسنة لمعنى (الهم) منها:
1. حكى الله ? عن المنافقين أنهم ? هموا بما لم ينالوا [سورة التوبة: 74] ? إذ حاولوا أن يشردوا به عند منصرفه من غزوة تبوك فلم ينالوا مرادهم.
2. حكى الله ? عن المشركين أنهم ? هموا بإخراج الرسول [سورة التوبة: 13] ? من بلده مكة، لكنهم لم يفعلوا، لأنهم خافوا أن يستجيب له غيرهم من العرب فيقوى أمره.
3. في السنة أن النبي ? (همَّ أن يأمر رجلاً يصلي بالناس، ثم يأمر من يحرق على المتخلفين عن صلاة الجمعة بيوتهم)، لكنه امتنع ترجيحًا للمانع على المقتضي (). ثم ذكر في موضع آخر. وعليه فلا يصح تفسير ? ولقد همت به ? بهذا المعنى المتقدم من شواهد الكتاب والسنة إلا بما قررناه. وإن ما قاله الجمهور باطل لمخالفته له، بل للغة القرآن وهدايته، وإنما خدعتهم الروايات الباطلة، واستدل صاحب المنار لقوله بما يأتي:
1. إن (الهمّ) لا يكون إلا بفعل لـ (الهام)، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، وإنما نصيبها منه بقبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.
2. إن يوسف ? لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل، فيسمي قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه همًّا لها، فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته.
¥