3. لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير أن يقال: (ولقد هم بها وهمت به)، لأن الأول هو المقدم بالطبع والوضع هو الهم الحقيقي، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.
4. إنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبًا جازمًا مصرة عليه، ليس عندها أدنى تردد فيه، ولا مانع منه يعارض المقتضي له، فأذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقًا ().
وينفي أبو عبيد القاسم بن سلام ما نسبه الرواة إلى ابن عباس بقوله: ((وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه همّ بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيمًا للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم)) ().
وكما أن المفسر القرطبي يرد تلك الروايات التي نسبت الهم المحرم إلى يوسف ? عند تفسيره لقوله ?: ? ولما بلغ اشده أتيناه حكماً وعلماً [سورة يوسف: 33] ? بقوله: ((على ما تقدم بيانه وخبر الله صدق، ووصفه صحيح وكلامه حق، فقد عمل يوسف بما عمله الله من تحريم الزنى، ومقدماته، وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة بل أدبر عنها وفرَّ منها، حكمة خُص بها وعملاً بمقتضى ما عمله الله)) ().
وبهذا ظهر زيف الروايات التي تعلق بها الواحدي وغيره من المفسرين الذين نقلوا الأخبار المكذوبة على ابن عباس وغيره من التابعين في نسبة الفعل المحرم إلى نبي عصمه الله من كل سوء.
وينكر المرحوم سيد قطب على المفسرين الروايات التي ساقوها في تفاسيرهم لقوله ?: ? وهمت به وهم بها ? وعدَّها من الإسرائيليات بقوله: ((فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعًا شقيًّا، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع)) ().
ويرجح سيد قطب أن همَّ يوسف بأنه حديث النفس، وذلك لما تعرض له من صراع داخلي بين المقاومة والضعف، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة (). وهذا معناه أنه لم يحصل الفعل منه بالذي صوره أغلب المفسرين القدامى، وهو تصوير بشع لا يليق مع مقام هذا النبي الثابت على عقيدته والملتزم بعفته وطهارته، وفي النهاية نستطيع أن نقول في هذه الاية: ? ولقد همت به وهم بها ? أنها تدل على أنه لديه شهوة ولكن الله عصمه بالنبوة فلم يهم بها، وهمت به بغريزتها ولم يهم بها لغريزته، وذلك لوجود البرهان، والبرهان هنا يمكن أن يكون النبوة على ما ذهب إليه جعفر الصادق، وهو تفسير له وجاهته وعليه حشمة ووقار، وهو الذي يوافق ما دلَّ عليه الفعل من عصمة الأنبياء ().
الخاتمة
وبعد هذه الجولة المباركة في كنوز العلم والمعرفة والوقوف على كلام أهل التأويل في هذه الآية التي عقدنا البحث عنها، والتي شكلت اهتمام المفسرين قديمًا، وكما شغلتهم حديثًا نصل إلى أهم النتائج في ذلك منها ما يأتي:
أولاً: إن الكثرة الكاثرة من المفسرين القدامى قد سودوا صفحات تفاسيرهم بما يخدش مقام النبوة، ونسبوا إليه أفظع فعل يتنزه عنه أفسق الناس.
ثانياً: إن أغلب الروايات التي اعتمدوا عليها وعدوها رأياً للمفسرين من السلف وجمهورهم، ما هي بالحقيقة إلا روايات مكذوبة أو ضعيفة، إذ لا نكاد نقع على سند واحد منها صحيح، وأن متونها هي الأخرى لم تسلم من النقد أو الطعن.
ثالثًا: إن أكثر المحققين من المفسرين واللغويين ردوا علىهذه الروايات وفندوها، أمثال الزمخشري وابن عطية وابن العربي والرازي وأبو حيان الأندلسي والقرطبي والآلوسي وأبي السعود ومحمد رشيد رضا، ومن المحدثين ابن عاشور وسيد قطب وغيرهم.
رابعًا: إن هذه الروايات واضح فيها الأثر اليهودي، وتشم منها رائحة الأخبار الإسرائيلية المكذوبة والمفتعلة على الصحابة والتابعين، لأن ثقتنا بالصحابة ـ وهم أعلم الناس بمقام الأنبياء ـ أن لا يتكلموا بمثل هذه الروايات التي تنسب فعل قبيح إلى نبي صديق مخلص لدينه بشهادة رب العالمين، وقد دل القرآن على كذب تلك الروايات فلا مجال لتصديقها.
¥