التصورات، فيعلم أنه المراد، وكذلك الطلب بأقسامه، فإن كلا يميز بينها ويورد كلا في موضعه، ويجيب عنه بما يطابقه، حتى الصبيان ومن لا يتأتى منه النظر) (10).
والأولى في مثل هذا الاختلاف أن ينظر في تعريف الخبر إلى أوصافه فيعرف بأخصها الذي يميزه عن غيره، وبما أنه من ضروب القول فإنه يشترك معها في كثير من الأوصاف كعموم الإسناد والإفادة، إلا أنه ينفرد عنها بجواز وقوعه جواباً للاستفهام أو الاستخبار كما يعبر عنه بعض أهل اللغة، وبوصفه بالصدق والكذب، وهذا الأخير هو أخص أوصافه، وقد ذكر عبد القاهر الجرجاني أن العقلاء (جعلوا من خاص وصفه أنه يحتمل الصدق والكذب) (11)، وقال ابن وهب: (وليس في صنوف القول وفنونه ما يقع فيه الصدق والكذب غير الخبر والجواب؛ إلا أن "الصدق والكذب" يستعملان في الخبر، ويستعمل مكانهما في الجواب: "الخطأ والصواب"، والمعنى واحد وإن فرق اللفظ بينهما، وكذلك يستعمل في الاعتقاد في موضع "الصدق والكذب": "الحق والباطل"، والمعنى قريب) (12).
ولذا فإن كثيراً من علماء البلاغة وغيرهم وخاصة المتأخرين منهم يرتضي تعريف الخبر بهذا الوصف اللازم له، أي أن الخبر عندهم: ما يحتمل الصدق والكذب.
وقد سبق في كلام السبكي ما أورد على هذا التعريف بهذا اللفظ، إذ ليس كل خبر يحتمل الصدق والكذب، بل من الأخبار ما لا يحتمل أحدهما، خاصة خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم إذ هما صدق لا يحتملان الكذب ألبتة.
إلا أن البلاغيين تخلصاً من هذا الإيراد قيدوا الصدق والكذب بالنظر إلى ذات الخبر لا إلى قائله.
قال السيوطي: (الكلام إما خبر أو إنشاء لا ثالث لهما؛ لأنه إما أن يحتمل الصدق والكذب، أو لا، والأول الخبر، والثاني الإنشاء، وبعضهم يقيد الأول بقوله: لذاته؛ ليخرج الخبر المقطوع بصدقه، كخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن سكت عن هذا القيد قال: الخبر من حيث هو يحتملهما وإن خرج بعض أفراده لأمر خارج عنه، ألا ترى أن قول الإنسان مثلاً: "زيد قائم" يحتملهما وإن كان السامع يقطع بصدقه لمشاهدته له قائماً) (13).
ومعنى هذا أن أبلغ كلام أنشئ علم البلاغة لتلمس إعجازه لا يدخل في هذا التعريف، أو يدخل في هذا التعريف من حيث هو كلام من جنس سائر الكلام، لا من حيث هو قرآن تكلم به أصدق القائلين، وقد اكتسب القرآن الصدق من المتكلِّم به عز وجل، لا من مجرد تطابقه مع الواقع، وهكذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذا ناقش بعض الباحثين هذا القيد غير مسلمين بالتعريف، ومن هؤلاء الدكتور منير سلطان حيث قال: (ما معنى الجملة التي تحتوي على معلومة تحتمل الصدق والكذب لذاتها بغض النظر عن قائلها؟ كيف يكون المتكلم صادقاً والخبر الذي يلقيه كاذباً، أو العكس؟! كيف؟! (14)
لقد وجدوا أمامهم القرآن الكريم والحديث الشريف والمسلمات من الأحكام، فماذا يقولون فيها؟ إن جملة "بغض النظر عن قائلها" لا توقعهم في الحرج، ثم أرادوا أن يريحوا أنفسهم فأخرجوا القرآن الكريم والحديث الشريف والمسلمات من القاعدة، وقالوا: هذا الأخبار علم مسبقاً أنها صادقة. ونسوا أن القاعدة التي تعجز عن احتواء القرآن الكريم قاعدة عابثة) (15) إلا أن الدكتور منير لم يقدم تعريفاً بديلاً عما نقده.
ويرى الدكتور ناصر الخنين أنه (لو لم يكن من هذا القيد الذي أثبتوه إلا سوء الأدب مع كلام الله تعالى وكلام رسوله –عليه الصلاة والسلام-؛ إذ جعلوا كلامهما –المقطوع بصدقه- يحتمل الكذب والصدق مع أن مصدره أصدق القائلين…
فضلاً على أن في هذا المنهج جرأة على كلام الله تعالى من حيث ترك نسبته إليه بدعوى أن ذلك على سبيل الجدل والافتراض والزعم بأنه يحتمل الصدق والكذب حتى يدخل في تعريف الخبر…
فليس من الأدب شرعاً ولا عرفاً أن نفترض في كلام الله أنه منقطع عن قائله أو أنه كلام عادي يحتمل الصدق والكذب كغيره من كلام البشر، ذلك تمحل نهينا عنه شرعاً، وهو منهج يوناني الأصل، اعتزالي النشأة، منطقي الفكرة، مباين للفطرة التي جبل عليها لسان العرب وبيانهم المشرق) (16).
وارتضى الدكتور الخنين أن يعرف الخبر بأنه: (ما تركب من جملة أو أكثر، وأفاد فائدة مباشرة أو ضمنية) وعرف الإنشاء بأنه (ما سوى الخبر مما أفاد طلباً أو قسيمه) (17).
¥