أما ما وقع الجواب عنه في غير السورة التي وردت فيها الشبهة فكثير، ومنه قوله ـ تعالى ـ: ((ن) وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)) [القلم: 1، 2]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)) [التكوير: 22]، فمثل هذه الآيات أجوبة تفند زعمهم الباطل كما حكاه القرآن: ((يَا أَيُّهَا الَذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ)) [الحجر: 6].
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن القرآن كالسورة الواحدة، وحينئذ يتكامل الموضوع لدى الطالب ويؤثر في بنائه العلمي والنفسي. والله أعلم.
التفسير ووحدة المسلمين:
ومن أهم ما يثمره الاشتغال بالتفقه في القرآن وعلومه وتفسيره الوحدة بين جميع المسلمين: وحدة في الإحساس والشعور، ووحدة في الوجدان والتفكير، ووحدة في السلوك والعمل، فتتقارب النفوس وتستقيم وتتحد نوازعها ومشاربها وتصوراتها لصدورها عن أصل واحد ونبع واحد وهو التفقه في القرآن وعلومه فيزدادون صلة ووداً ومحبة.
التفسير وبناء الشخصية السّويّة:
ولذلك كان أهل القرون الفاضلة إخوة متماسكين، ولم يكن بينهم هذا التباعد وهذا الجفاء وهذا الانفصال الذي نراه اليوم بين طلبة العلم من جهة وبينهم وبين أساتذتهم من جهة أخرى.
تفسير القرآن وفهمه يساهم مساهمة فعالة ترى آثارها بادية في بناء الشخصية السوية المعتدلة؛ لأن القرآن يتضمن علوماً كثيرة ومنوعة ومكررة بمختلف الأساليب، وكل واحد منها يغذي جانباً من جوانب الشخصية مع المحافظة على التوازن والتكامل؛ لأن نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان نظرة شاملة تغطي جميع مجالات حياة الإنسان.
ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة حث عليها الشرع، وقررها القرآن ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 143] وكان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها.
وقد تُحْدث دراسةُ العلوم الإسلامية المفصولة عن القرآن الكريم انفصالاً في بعض جوانب الشخصية؛ فقد يتعلق بعضهم بالفقه فقط، والآخر بالحديث، وبعضهم بالعقيدة، ولكن هذه العلوم هي بعض مما تضمنه القرآن وهي جزء من التفسير.
وقد يكون الاقتصار عليها مؤدياً بصاحبه إلى الميل والشطط والغلو والتعصب، وقد حصل شيء من هذا؛ وكل ما نراه من فروق واضحة بين الطلبة يرجع إلى الاختلاف بينهم في تخصصات مفصولة من القرآن، وإن كانت تعتمد على القرآن؛ فالفصل وحده كاف لإحداث هذا، ثم لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن هذه الآية في الأحكام، وهذه في العقيدة.
وإذا كان أولها في الأحكام وآخرها في العقيدة فماذا يفعل؟
ولذلك لم تنضبط آيات الأحكام عند العلماء، وكان من الموفقين في ذلك الإمام القرطبي؛ إذ سمى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن)، وفسر القرآن كله ولم يستغن عن بعضه، ولم يستطع أن يسلخ منه هذه الأحكام. كما فعل أبو بكر الجصاص وابن العربي، فإن الفصل وحده كاف لإسقاط بعض المعاني، والربط وحده يتضمن أحكاماً. قال الرازي: (إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط).
فالذي يقضي على مظاهر الانحراف والغلو والشذوذ هو الاشتغال بالقرآن فهماً وتفسيراً وتفقهاً.
ومما يؤخذ على من يقتصر على موضوع واحد ومادة واحدة أو تخصص واحد أنه ينعزل وينغلق على ما حبس نفسه فيه، وانزوت شخصيته في دائرة ضيقة من علوم الإسلام؛ وبذلك تنحصر علاقته بالأمة في أشخاص معدودين، وتتقلص مودته إلى العدد القليل من الناس، ولم تكن له مشاركة ولا مساهمة عفوية مع الآخرين، فقد بتر نفسه من جميع بقية فروع المعرفة وعلوم التنزيل التي حواها كتاب الله.
تفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه يصل أصحابه بأصحاب التخصصات العلمية الأخرى، ويرتبط بجميع أصناف الناس وطبقاتهم، ويطمئنون للأخذ عنه والاستماع إليه؛ لأنه لا يعلم فناً معيناً بعينه، ويستطيع أن ينشر عقيدة التوحيد على أوسع نطاق من خلال دروس التفسير.
¥