وانفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين ولا من شأن عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ؛ فلا بد من ربط كل هذه العلوم وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم، ولا يحقق هذه الغاية إلا تفسير القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية التربية والتعليم من جميع النواحي.
ولم يكن للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كتاب يدرسونه، وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في مجالسهم يتذاكرون إلا ذلك، فخلف من بعدهم قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية.
قال الشيخ عبد الرحمن النحلاوي: (فانفصال المواد الدراسية ليس من طبيعة الثقافة الإسلامية، ولا من شأن التربية الإسلامية التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي انبثقت عنه ما تزال وظيفتها توضيح الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها فلا بد من ربط كل هذه العلوم بهدف التربية الإسلامية).
إن فصل المواد الدراسية من القرآن والسنة بمرور الزمن قد يُنسي ربطها به، ويتقرر في أذهان الناس استقلالها، وحينئذ يدخلها اجتهادهم واستحسانهم بالتغيير والتبديل والإضافة.
ومن السمات البارزة عند بعض أهل الفرق أنهم لا يفسرون القرآن كله، ولا يتبعونه آية آية؛ لأنهم إن فعلوا فإنهم يصطدمون بالآيات المحكمات التي تناقض مذهبهم وهواهم، فيسلكون مسلك الانتقاء والاختيار، ومن فسر القرآن كله منهم كالزمخشري من المعتزلة والطبرسي من الشيعة وغيرهم، فإنهم يوجهون الآيات التي تصادم مذهبهم بالتأويل ويسلكون في سبيل ذلك كل مسلك انتصاراً لمعتقداتهم؛ فهم من باب قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: ((إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) [الأنعام: 159].
قرأ الجمهور: ((فَرَّقُوا دِينَهُمْ)) من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد، وجعله فرقاً وأبعاضاً، وقرأ حمزة والكسائي: [فارقوا] من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته؛ لأنه واحد لا يتجزأ، ومن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل.
والدين لا يتجزأ، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض)) [البقرة: 85] وقال: ((كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر: 90، 91]، وقال: ((إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [النساء: 150].
قال محمد حسين الذهبي: (إن الباطنية لا يفسرون القرآن كله؛ لأنهم يصدمون بآيات محكمات تردّ مذهبهم).
وقال في بيان موقف الخوارج من التفسير: (لا يأخذون من القرآن إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها. وما رأوه يصادم مذهبهم حاولوا التخلص منه بصرفه وتأويله).
وقد لجأ بعضهم إلى المتشابه لغرض نصرة المذهب الفاسد كما نص على ذلك القرآن المجيد فقال: ((فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ)). [آل عمران: 7].
وأهل الزيغ والضلال يفزعون إلى المتشابه الذي بواسطته يمكنهم أن يلبّسوا به، ويصرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها، وما دخلت البدع في دين الله إلا بسبب التعلق ببعض الآيات وإهمال الآيات الأخرى أو سوء فهم لها.
فالمعتزلة تعلقوا بقوله ـ تعالى ـ: ((فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) [الكهف: 29] وأثبتوا حرية الإنسان، وقالوا: إنه خالق لأفعاله، ونفوا صفة الكلام لله رب العالمين، وتعلقوا بقراءة شاذة ((وكلَّم اللهّ موسى تكليماً)) فجعلوا موسى هو الفاعل المتكلم، وأغمضوا أعينهم عن القراءة المجمع عليها: ((وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) [الأعراف: 143].
¥