تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالمراد من هذا الحديث إثبات "دعوى" أن السلف كانوا يحسنون بأصواتهم من غير أن يتكلفوا أوزان الغناء، والحديث ليس نصا في المطلوب فنحن لم نسمع تلاوة أبي موسى ولم يذكر أنه لم يتكلف ذلك، بل إن قوله " لحبَّرته لك تحبيرا" أقرب دلالة على التكلف، إذ إنه يدل على مزيد اعتناء بحسن التلاوة زيادة على الحال العادي

ثم إن عبارة "التكلف" - مع ذكر الغناء - منفرة في حد ذاتها، ولذا تعطي القارئ انطباعا غير جيد عن من يوصف بها، فيميل إلى استشناع ما يقوم به، ولكن الحقيقة أنها عبارة فضفاضة غير علمية إطلاقا، فالتكلف في اللغة هو فعل ما فيه كلفة أي مشقة، وذلك - في حد ذاته - ليس بالأمر المكروه، فالخطاط مثلاً يتكلف لكي يكتب القرآن بخط بديع ترتاح إليه عيون القراء، والقارئ ذو الصوت الخشن ينبغي أن يتكلف ليقرأ القرآن بصوت جميل ويحبره تحبيرا

وأذكر أن السخاوي ذكر في ترجمة الإمام عاصو القارئ البدر أن كان متنطعا في القراءة، ولم يعدَّ ذلك عيبا بل فسره بأنه متتبع لأحكام التجويد

قوله:

ويلحق به التطريب وغيره، حيث النص عن ابن مجاهد على منعه

يتناقض مع نقله عن ابن القيم:

وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعاً أنهم برءاء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوِّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجي تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة

فهل التطريب ممنوع مرغوب عنه؟ أم هو من هدي السلف؟

الحقيقة أن هذا من المواضع المشكلة التي نجد التناقض فيها لدى الكثيرين، وكان المفترض أن يبين الدكتور فيها رأياً واضحا، فما هي المشكلة في التطريب إذا كان هو تحسين الصوت؟ وهل يمكن أن يكون الصوت حسناً وغير مطرب؟

وحتى كلام ابن القيم في هذا لا يخلوا من بعض التناقض؛ ففي البداية يبرئ السلف من القراءة بالألحان "المتكلفة "، ثم بعدُ يقرر أنهم يقرأونه بشجىً تارةً وبطرب تارة وبشوق تارة، ولعمري ما تلك إلا المقامات؛ الصبا والسيكا والنهاوند ... إلخ

ثم قوله:وعلماء التجويد والقراءات لا يعتدون بعلم الألحان، وإنما يشتغل به من يتخذون القرآن الكريم حرفة لإحياء الليالي والمآتم ونحوها، أو من يحبون الشهرة،

هذا من الأمثلة على طغيان العوارض على الموضوع، فكون البعض يتخذ القرآن حرفة لإحياء الليالي الخ لا يعني أن كل من قرأ المقامات هو كذلك، فبقي السؤال المطروح: وما حكم من تعلمها ليقرأ القرآن تعبدا فقط، ويمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أن هذا موجود وكثير

ثم إن إحياء الليالي أيضا إذا خلا من غرور القارئ وإعجابه بنفسه وكان تلاوة لكتاب الله بنية الانشغال بها عن القيل والقال فهو أمر محمود

يبقى أن طريقة الاجتماع في كثير من الأحيان يكون فيها الصراخ وعدم الاحترام لكتاب الله فهذا من أعظم الآثام وينبغي التحذير منه، ولكنه لا يؤثر في الحكم على التلاوة مجردة

وما ذكره ابن حجر (ت852 هـ) وغيره من الأئمة المعتبرين من الجواز في ذلك إنما مرادهم التلحين البسيط الذي لا يؤثر على الأداء الصحيح، وهذا هو محل الخلاف.

هذا أيضا مثال على التعميم وإطلاق العبارات غير العلمية، فما هو "التلحين البسيط"، ومن يحدده؟ وإذا سمعنا المنشاوي مثلا يتلو آية بمنتهى الخشوع مع إتقان الأحكام - ونحن لا نعرف المقامات - فهل سنتوقف في أمرها حتى نعرف هل هي على التلحين البسيط أم لا؟ وهل إذا عرفنا أنه - مع التزامه بالأحكام - قد قرأ تلك الآية بمقام كذا فنقول حينها إنه مقام من التلحين البسيط الجائز؟

* * *

هذا ما أردت التعليق عليه من هذا البحث القيم المفيد

والذي يبدو لي أن الأمر يحتاج أولا إلى تحديد المنطلق، ثم بعد ذلك إلى تحرير محل النزاع، لكي ينحصر الموضوع ويتحدد محل الإشكال

أعني بالمنطلق:هل تحسين الصوت بالقرآن مطلوب؟

بعض العلماء كرهه، ورأى أن يقرأ فقط بقراءة عادية من دون تحسين إطلاقاً، ومنهم الإمام القرطبي فقد أفاض في ذلك في مقدمة تفسيره، وتأول كل الأحاديث الواردة فيه.

لا أظن أن أحدا منا يوافق على هذا القول، فالجميع هنا متفقون على تحسين الصوت بالقرآن كما هو قول جماهير العلماء

إذن فما هو التحسين، وهل يمكن أن أن يكون تحسين بدون الالتزام بنسق معين؟ وبدون تمرين عليه؟

أظن أن الجواب على السؤالين هو "كلا "

إذن فالالتزام بنسق معين هو "المقام" والخروج عليه هو " النشاز "، والتمرين على ذلك النسق هو " التكلف"، فالطفل في سن التعلم لو تركته يقرأ القرآن كما يقرأ القصة ولم تكلفه تحسين الصوت فلن يحسن صوته بالقرآن

أما تحديد محل النزاع، فأقصد به أن نقول

- إن ما كان فيه خروج على أحكام التجويد فهو محرم مطلقا، سواء كان مقامات أو غيرها

- وما كان بالمقامات ولم يكن فيه خروج عن أحكام التجويد، فما الإشكال فيه؟

لقد كاد المحاضر أن يقبل بهذا التفريق حين قال:- الخلاف في القراءة بالألحان مفرع على مراعاة قواعد التجويد، فإن وافقها فجائز، وإن خالفها فممنوع.

ولكنه في فقرة أخرى يدعي أن ذلك غير ممكن:

فذلك لا يجوز، لأن أداء القرآن له مقاديره التجويدية المنقولة التي لا يمكن أن تتوافق مع مقادير قواعد تلك الألحان إلا على حساب الإخلال بقواعد التجويد،

هذا برأيي هو مربط الفرس وهو محل النزاع الذي ينبغي أن يدور حوله النقاش:

هل يمكن أن يقرأ القارئ بالمقامات ملتزما بسلمها، وهو مع ذلك ملتزم تماما بأحكام التجويد

نرى أنه ممكن، بل نرى أنه يساعد القارئ أكثر

وربما يكون الفيصل في ذلك هو تسجيلات القراء، وعلى رأسهم العلم الأجل الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله فلا يختلف اثنان على حسن أدائه وإتقانه، كما لا يختلف أهل المقامات على إحكامه لها أيضا، وشهادة العزاوي حجة في هذا الباب، فهو من أرباب الفن

ولئن يسر الله في الوقت فسوف أرفع هنا نماذج للشيخ الشحات رحمه الله تعالى لكل من المقامات السبعة، يتضح بها صحة ما نراه

والله تعالى أعلم والسلام عليكم ورحمة الله

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير