تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا المنحى يكثر في كلام العرب بصدد نطق الألفاظ الأجنبية أو الدخيلة، فقالوا (لذريق) لعظيم الروم بدلاً من (رودريك). وللسبب نفسه وهو الاستسهال ما كان يتردد على ألسنة بعض العامة في مدينة حلب حين يقولون (خليف) بدلاً من خريف، وقولهم أيضاً تحول اسم طبيب أجنبي كانوا يسمونه (الملكاني) أي الأمريكاني ... وقد يعمد الناس، على قلة، إلى العكس أي إلى قلب اللام فيقولون (يا ريت) بدلاً من يا ليت، أو (بركون) بدلاً من بلكون أو (بنطرون) بدلاً من بنطلون ...

هذا وأمثاله كثير الوقوع في ألفاظ العربية فصيحها وعاميها. ويبقى التساؤل قائماً تجاه الكثير من الألفاظ المتوارثة المذكورة، وهو: إلى أي مدى نستطيع أن نعد الكلمات المتضمنة حرف الراء، ومرادفاتها المماثلة التي تتضمن حرف اللام أصيلتين. وإذا جنحنا إلى القول بوجود أحدهما فحسب، إما الراء وإما اللام، فأيهما الأصيل، وأيهما الطارئ؟ هذه مسألة تكاد تكون مستعصية، وقد يصعب حسمها.

ومهما يكن من أمر فالحقيقة الباقية من الوجهة الصوتية تتجلى في تآخي حرفي الراء واللام على الألسنة حتى ليبدوان كأنهما أخوان توءمان:

هـ ـ مخرج الراء وقضية التلاؤم والتنافر:

وإذا تتبعنا هذه الظاهرة الصوتية من منطلق المقارنة بين نمطين من أنماط القول، وهما الأدب التراثي الفصيح والأدب الشعبي المحكي، وعمدنا إلى رصد الأمثال والأزجال ونحوها في لهجات العرب المعاصرة، بدت لنا ظاهرة التواشج بين الراء واللام حية مستمرة في كلام الناس، دائمة التردد على ألسنتهم. فمن مأثور أمثال العامة أن "الولد إذا بار فثلثاه للخال"، وفي هذا القول إعلاء لشأن الأم ومنزلة الأخوال في حياة الأسرة والمجتمع. ومثل ذلك أيضاً مقولتهم الشائعة بصدد اختيار الزوجة الصالحة: "خود الأصيل ولو عالحصير". ومن أمثلة تآخي اللام والراء، فيما يعد من قبيل السجع في الكلام، تسمية أهل حلب لصنف من الحلو، معروف لديهم، هو "كول وشكور" أي كل واشكر. ومن هذا القبيل عبارات مشابهة على هذا الصعيد أورد خير الدين الأسدي نماذج طريفة منها خلال موسوعته الفريدة عن حلب، يقول ([5]): "من تهكماتهم: لو كان في الشعر خير، ما طلع على دناب الخيل" وهذا لسان حال الأقرع يقلل من أهمية الشعر في الرأس .... ومن أشعار الترقيص الذائعة عند العرب قديماً قول أعرابية تتباهى بكون ابنها ذكراً لا أنثى:

الحمد لله الحميد الغالي = أنقذني العام من الجواري

كذلك صدرت عن الأمهات العربيات نماذج ما زالت متداولة في بعض الأوساط الشعبية ولا سيما في الأرياف العربية، كقول الأم لولدها وهي ترقصه بجذل ([6]):

حج الله يا حجيج الله = دبس وسمنة بالجرة

ويضيف الأسدي إلى ذلك أمثلة مما تنشده الأم العربية لوليدها، بنبرات موقعة بقصد هدهدته وإلهائه وهي منهمكة في إعداد الكبة، داعية له بطول العمر. يقول ([7]): "ومن مناغاة أماتهم:

كبيبة كبه حرير = كبيبه عمرك طويل

ومن الملاعبات في حياة الناس الاجتماعية خلال أسمارهم رغبة في التسلي والمضاحكة قول الأسدي في موسوعته ([8]): "ومن معاظلاتهم، قولهم: خيط حرير على حيط خليل". ومن أبرز الأمثلة المتوارثة التي تتردد على ألسنة الناشئة أيضاً بقصد الملاعبة هذا البيت المكتظ بالراءات الذي أورده قديماً اللغويون العرب ([9]):

وقبر حرب بمكان قفر = وليس قرب قبر حرب قبر

وقد قال الجاحظ في صدده "ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض لاستكراه". وقائل هذا البيت السائر مجهول. وذكر الأقدمون أن العرب جعلوه من أشعار الجن، لأنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات ولا يتتعتع". وقد عزا ابن جني ([10]) ذلك إلى ظاهرة التلاؤم والتنافر بين أصوات الحروف، وأن سبب التنافر ما ذكره الخليل من البعد الشديد والقرب الشديد. وذلك كما يرى الرمّاني ([11]): "أنه إذا كان بَعُدَ البعد الشديد، كان بمنزلة الطفر. وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد". فقد جعل المعيار في ذلك جمالياً يقوم على الحس السليم والذوق المرهف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير