ولابن سنان الخفاجي، وهو التلميذ الحقيقي لابن جني قول طريف في هذا الموضوع، إذ يقول بصدد صفات اللفظة الفصيحة ([12]): "أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج. وعلة هذا واضحة، وهي أن الحروف التي هي أصوات، تجري من السمع مجرى الألوان من البصر. ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا جمعت، كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة. ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبعد ما بينه وبين الأسود".
و ـ اللثغ في الراء بين عيوب النطق:
وقد عرف العرب قديماً، دون سائر الأمم، بأنهم أمة فصاحة وبلاغة. وكانوا في أغلبهم أمة أمية تتجلى قدراتهم ومواهبهم في الخطابة والشعر، وهما أبرز فنون القول عندهم.
ومعلوم أن إلقاء الخطب وإنشاد الأشعار يرتكزان إلى ظاهرة صوتية واحدة تتبدى في الأداء والنطق. وكان العرب يولون سلامة النطق وحسن الأداء عناية فائقة، باعتبارهما أساس الفصاحة وعماد البلاغة. فقد كرهوا اللثغة والفأفأة والتأتأة والحبسة والحصر وغير ذلك مما يشين الكلام ويسيء إلى المقام. حتى إن بعضهم قد يعمد إلى تطليق امرأته حين يتبين له أنها لثغاء، مخافة أن تجيئه بولد ألثغ ([13]). ولهذا كانوا يعيّرون الخطيب إذا لحن، والمتكلم إذا لم يكن سليم الأداء. وتبعاً لذلك غدا للإبانة والإفصاح ولمسائل اللحن وعيوب النطق حيز واسع في أمهات كتب اللغة والأدب، من مثل ما تناوله الجاحظ وابن قتيبة وابن السكيت والقالي والسيوطي ...
واللثغة بالضم، تحول اللسان من السين إلى الثاء، أو من الراء إلى الغين أو اللام أو الياء، أو من حرف إلى حرف، أو أن لا يتم رفع لسانه وفيه ثقل" ([14]).
واللثغة بالإجمال عجز الإنسان عن نطق حرف من الحروف، أو عدم إخراجه من مخرجه الخاص به، بل مما يجاوره أو يغايره، بحيث ينطق بحرف آخر عوضاً عنه. واللثغ بفتحتين هو مصدر للفعل لثغ، وهو مرض يعتري جهاز النطق، على غرار العمى والصمم والبكم ... ونستنتج من ذلك أنّ اللثغ يعرض للحروف الأصعب نطقاً مثل السين والراء والضاد والقاف ... على حين لا يصيب الحروف اليسيرة النطق كالحروف الشفوية الميم والباء والفاء والنون ...
ويعقوب الكندي في رسالته عن اللثغ يفصل القول في هذه الظاهرة اللسانية ويعزوها إلى أسباب فيزيولوجية لدى الإنسان فيقول ([15]): "واعلم يا أخي أن اللثغة إنما تعرض من سببين: إما لنقصان من آلة النطق، وإما لزيادتها. فلا تقدر على تسريح الأماكن الواجبة للنطق، مثل مقاديم الأسنان وجميع الأماكن الواجبة للنطق. فأما الحروف التي تعرض فيها اللثغة من قبل زيادة العضو فهي السين والصاد والجيم والزاي والشين ... ". وقد اختلفت عدد الحروف التي يقع فيها اللثغ عند اللغويين العرب السالفين. فعلى حين اقتصرت عند الجاحظ على أربعة أحرف هي القاف والسين واللام والراء ([16])، جعلها الكندي خمسة، كما رأينا. ثم بلغت عند ابن الأنباري ستة أحرف، هي ([17]): "السين، والقاف والكاف واللام والراء وقد تكون في الشين".
لقد حظيت اللثغة باهتمام بالغ في أوساط البحث والتأليف إبان القرنين الثاني والثالث للهجرة. وتجاوز هذا الاهتمام فئة اللغويين إلى الشعراء والكتاب وسائر المؤلفين. ومن هذا القبيل قول أبي حاتم السجستاني ([18]): "وأما اللثغ فمعيب: وصاحبه معذور، لأنه ممنوع من الراء ... وأما أنا فلا أحب الصلاة خلف القبيح اللثغ لأنه يقول (إياه) وهو يريد الله عز وجل ... وإن صليت رجوت أن تكون صلاة جائزة إن شاء الله، لأن اللثغ في ألسنة الفصحاء ومولدي البادية. وليس جعل الخاء هاء والحاء هاء في ألسنتهم، إنما هي في ألسنة الأعاجم". فأبو حاتم يستدرك على حكمه العام، فيأبى لثغة الأعاجم في الصلاة، ويتقبل على مضض لثغة العرب".
وإذا كان العرب قديماً قد استهجنوا اللحن واللثغ بوجه عام في هذا الصدد، إلا أنهم اغتفروا ذلك في بعض الأحوال لدواع تتصل بالطرافة أو التظرف، وإلى مثل ذلك أشار الشاعر إلى إحدى القيان ([19]):
منطق صائب، وتلحن أحيا = ناً، وأحلى الحديث ما كان لحنا
أما اللثغة، فكانت أيضاً متقبلة بل مستملحة من أفواه الجواري، والغلمان، ولا سيما الأعاجم منهم. ومن قبيل التماجن يقول أبو نواس في غلام ألثغ ([20]):
وابأبي ألثغ لاججته = فقال في غنج وإخناث
¥