لما رأى مني خلافي له = كم لقي (الناث) من (الناث)
نازعته صهباء كرخية = قد حلبت مِن كرم حرّاث
إبريقنا منتصب تارة = وتارة مبترك جاثي
وعلى هذا الغرار من خفائف الأشعار استملح أبو نواس اللثغة أيضاً من فم ساق مليح يميس ويتثنى في مشيته، وقد انقلبت السين في كلامه ثاء ([21]):
وشادن مر بنا ضحوة = سكران من خمرة حرّاث
يميل في المشي لدى سكره = كأنه نرجس جثجاث
فقلت: جد لي، إنني هائم = يا ساحراً قلبي كنفّاث
فقال لي: أنت فتى مائق = ويحك، ما أنت من الناث
إلى مثل هذه الأبيات عمد الشاعر الماجن، وهو في حالة من السكر، محاولاً تقليد ساقيه الألثغ فراح ينادي، "أين الكاث والطاث .... ([22]) ".
وشادن قلت له ما اسمكا = فقال لي بالغنج: (عباث)
فصرت من لثغته ألثغا = فقلت: أين "الكاث والطاث"
ومثل هذه الظواهر الأدبية والاجتماعية شاعت في حياة الناس وأسمارهم في إبان العهود العباسية، ولا سيما في معرض التفكه والتماجن، ورويت في هذا الصدد أخبار وأشعار حول التغزل بالغلمان ومنادمة الخصيان. وكان من ذوق ذلك العصر أن يكون الغلام الذي يستهتر به أغنّ الصوت، غناجاً، ألثغ السين .. ([23]).
ومن هذا القبيل أبيات ابن الوردي في فتاة لثغاء ([24])، وتصح قراءتها على وجهين:
لثغة من أهواه من حسنها= عندي على الوجهين محموله
قلت: سهام الطرف منسولة = لرمي قلبي قال منثولة
قلت سيوف الصبر مسلولة = عليك مني، قال مثلولة
ز ـ أوجه اللثغة بالراء:
أما اللثغة بالراء، فكانت موضع اهتمام الجاحظ في "البيان والتبيين". وقد استهل كتابه الكبير بالكلام على عيوب النطق، وذكر أنواعاً من اللثغ في بعض الحروف، وانتهى إلى أن اللثغة بالراء أشهرها وأشيعها على الألسن. وفي ذلك يقول ([25]): "وأما اللثغة التي تقع في الراء فإن عددها يضعف على عدد لثغة اللام". ثم يفصّل القول على صعيد الراء نفسها، فيرى فيها أنواعاً تعرض لبعض من ينطقونها، "لأن الذي يعرض لها أربعة أحرف". ثم يبين أن منهم من يجعل الراء "ياء"، ومنهم من يجعل الراء (ذالاً) أو (ظاء). وأتي بمثال من شعر عمر بن أبي ربيعة في قوله ([26]):
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد = وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة = إنما العاجز من لا يستبد
فيذكر أبو عثمان أن بعضهم يلفظ كلمة مرة (مية)، أو (مغة)، أو (مذة)، أو (مظة). أي أن انحراف مخرج الراء من اللسان يجعل نطقها ياء أو غيناً أو ذالاً أو ظاء ...
ولكن الجاحظ ـ فيما نرى ـ فاته أن يذكر حالة أخرى من اللثغ، وهي نطق الراء (لاماً). وعلى ذلك من المفيد أن نضيف إلى حالات اللثغ الأربع عند الجاحظ حالة خامسة، وهي نطق الراء لاماً، حين يلفظ الألثغ كلمة مرة في بيت عمر (ملة) ([27]). وقد ذهب أبو حاتم السجستاني إلى مثل ذلك ـ وهو معاصر لأبي عثمان الجاحظ إذ قال ([28]): " ... فمن اللثغ من يجعل الراء غيناً فيقول في سرير (سغيغ)، ومنهم من يجعلها لاماً فيقول (سليل)، ومنهم من يجعلها ياء ويجعل اللام أيضاً ياء ... ". على أن أبا حاتم يضف إلى ما ذكره حالة أخرى من اللثغ بقوله: "وقد رأيت من يهمز كل راء، ولا يقدر على ذلك"، إلا أنه لا يمثل لهذه الحالة بلفظ ما ولا يورد الحرف البديل المنطوق.
وما تقدم في هذا الصدد يعني أن ثمة أوجهاً ستة وربما أكثر من ذلك لنطق الألثغ في حرف الراء. وعندئذ يمكننا تلاوة بيت عمر ذاك وأمثاله أيضاً على هذا الغرار, ولا سيما البيت الذائع على ألسنة الناشئة والمتأدبين، وهو جدير بأن يزيدهم إطرافاً ومتعة:
أمر أمير الأمراء = بحفر بئر في الصحراء
أما اللثغة في الراء حين تلفظ (ظاء)، أي (مظة) بدلاً من مرة فهي اللثغة الأندر، في حدود علمنا. ولم نقع في هذا الصدد على شيء من كلام العرب، منظومه ومنثوره تتبدى فيه هذه الظاهرة اللفظية. على أن هذا لا يحول دون وجودها في كلام بعض الناس، مهما يقلوا. وأغلب الظن أنها لثغة قبيحة تعيب صاحبها. أما نطق الألثغ للراء ذالاً فقريب من نطقها (ظاء)، وهي لثغة مخففة من سابقتها، وتعد أيضاً قبيحة.
¥