بالغ الأهمية، مفاده أن ثمة لثغات لدى البشر تغاير ما هو جار على ألسنة الآخرين، وأنها فيما يبدو نادرة الوجود بين الناس. وذكر أن من اللثغات ([66]): "شيئاً لا يصوره الخط، لأنه ليس من الحروف المعروفة، وإنما هو مخرج من المخارج، والمخارج لا تحصى، ولا يوقف عليها. وكذلك القول في حروف كثيرة من حروف لغات العجم، وليس ذلك في شيء أكثر منه في لغة الخوز. وفي سواحل البحر من أسياف فارس ناس كثير، كلامهم يشبه الصفير".
ثم يعمد الجاحظ إلى التخصيص بصدد ما نحن فيه، بعد أن يفرغ من الكلام على اللثغات، الأربع التي ذكرها فيقول ([67]): "وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء ولسليمان ابن عدوي الشاعر، فليس إلى تصويرها سبيل ... وليست لها صورة في الخط ترى بالعين. وإنما يصورها اللسان وتتأدى إلى السمع ... ".
وبذلك يكون الجاحظ، بنفاذ رؤيته، قد جلا هذه المسألة، أو حسمها بصدد واصل بن عطاء بعد أن بدت لنا أول الأمر غائمة ... ومصداق هذا الرأي السديد أننا إذا حاولنا اليوم رصد كلام أحد من شعوب الشرق الأقصى من الصين أو كوريا أو فيتنام أو غيرهم، وعمدنا إلى تدوين ما يلفظه من حروف وكلمات وعبارات، فإننا قلما نخرج من ذلك بطائل، لأن رسم أشكال حروفنا مصطلحات تقابل مخارج وطرائق نطقنا، ولا تصلح إلا قليلاً لرسم حروف اللغات الأخرى وتصوير أصواتها.
وفي نهاية المطاف، واعتماداً على كل ما تقدم، بوسعنا القول: إن واصل بن عطاء أشهر اللاثغين بين الناطقين بالضاد ...
ل ـ خطبة كرم ملحم كرم:
على أن واصل بن عطاء ليس آخر اللاثغين، وإن كان أشهرهم في أمة العرب. فقد شهد امتداد عصر النهضة العربية الحديثة علماً لبنانياً رائداً، كان كاتباً وخطيباً، وصحفياً وقاصاً وروائياً ومؤلفاً هو كرم ملحم كرم ([68]). وكان هذا الأديب يلثغ بحرف الراء، ويلفظه غيناً. كما كان يتأذى من هذه الظاهرة لديه، ولا سيما أن اسمه ينطوي على راءين. وقد حرص على مواراة هذا العيب في أقواله وأحاديثه الإذاعية. ومما روي عنه أن صديقه الشاعر إلياس أبو شبكة ([69]) شاء أن يحرجه يوماً بمناسبة إزاحة الستار عن تمثال شاعر المهجر فوزي معلوف في زحلة وحفل تدشين مستشفى تل شيحا، حين طلب منه أن يلبي رغبة الحاضرين بأن يلقي خطبة في هذه المناسبة الخيرية، فما كان منه إلا أن سعى إلى المنبر بخطا واثقة تنم على قبوله التحدي، وألقى على الملأ كلمة أرتجلها، دون أن ترد خلالها كلمة فيها راء .. ([70]).
وكان يؤثر أن يعرف نفسه بأبو ملحم وأن يناديه الناس بذلك. كما كان يستبدل بكلمة مصر وادي النيل وبهارون الرشيد أبا الأمين أو أبا المأمون، وبالأمير بشير أبا سعدى ...
م ـ وظائف الراء في اللغات الأخرى:
وعلى هذا الصعيد من كثرة دوران الراء على ألسنة الشعوب يشكل مثلاً اقتران الراء واللام (لر) في اللغة التركية، مقطعاً من اللواحق Suffixes يشير إلى علامة الجمع: (أفندي، أفنديلر ... ).
وفي الألمانية تقترن الراء بالدال في المقطع در DER وهو بمنزلة السوابق Prefixes، فيشكل بذلك أداة التعريف في المذكر، وصيغة التذكير في الألمانية هي الأصل في هذا الصدد وهي أيضاً الأعم في مجمل الأسماء.
أما الفرنسيون ولا سيما أهل باريس، وهم من أشهر اللاثغين في حرف الراء في اللغات الحديثة، فإن لهذا الحرف R في لغتهم شأناً أكبر، إذ يلتصق بطائفة بالغة الكثرة في مفرداتهم أسماء وأفعالاً، ومعاجمهم مثل Larousse وأشباهه حافلة بذلك. وحرف الراء، كسائر حروف الفرنسية، صامت Consonne ولا بد أن يتلوه صائت Voyelle من مثل E, I, O, A. غير أن ما يعنينا الآن هو نوع محدد من السوابق Prefixes، وهو المقطع Re. وهنا يخرج عن نطاق بحثنا كل لفظ أساسي الحروف، أي المجرد الذي يبدأ بهذين الحرفين أصلاً مثل Repondre بمعنى أجاب، Regler بمعنى رتب، Rempir بمعنى ملأ. أما ما نحن بصدده فهو دخول هذا الحرف، أو المقطع Re على كلمة ما لتصبح مزيدة، أي بعد أن يضاف إليها السابق المراد Prefixes.
¥