سابعاً: عدم اتخاذها ذريعةً أو أداة للمراء والجدال في القرآن، وقد تقرّر بوضوح أنها كلّها (36) من عند الله، وقد قال سبحانه في القرآن: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً? [النساء: 82].
ولأنَّ الأمرَ كذلك، فالقطع حاصلٌ بأن الحروف والقراءاتِ لا تتعارض، وإنما تتنوَّعُ لحِكَم عديدة ستأتي الإشارةُ إلى بعضها.
وبناء على هذا القطع فُهم المرادُ من كلام رسول الله (ص): (المراءُ في القرآن كفر) (37) وغيره مما حام حول هذا المعنى مثل حديث: (فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم) (38) الذي قاله رسول الله (ص) تعقيباً على تصويبه اختلاف القراء.
ثامناً: عدم تصور أن اختلاف القراء كاختلاف الفقهاء، فقد يسبق إلى الذهن بحكم شيوع الكلام على الخلاف بين الفقهاء وأسبابه، وكيفية التعامل معه أن الخلاف بين القراء كالخلاف بين الفقهاء، وبين الخلافين بوْنٌ شاسع، والانتباه إلى الفرق بينهما أمر نافع.
فقد قرر أهل العلم أن اختلاف القراء كله حقٌّ وصواب، نزل من عند الله لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلافٌ اجتهاديٌّ، والحق في نفس الأمر واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر» (39).
فخلاف القراء خلاف في الاختيار أما الفقهاء فخلافهم في الاجتهاد والاستنباط، وخلاف القراء في أداء الكلمات القرآنية، أما الفقهاء فخلافهم في الأحكام الشرعية العملية.
وبإجمال يمكن القولُ: شتان بين خلافين أحدهما خلاف تنوُّع (وهو خلاف القراء)، والآخر خلافُ تضادٍّ (وهو خلاف الفقهاء) (40).
تاسعاً: القراءة بها جميعاً إن أمكن، لأنّ الكلّ قرآن، وهي بمجموعها ما أراد الله حفظه من كيفيات لأداء كلامه، فالاقتصار على بعض دون بعض مع القدرة حرمان من بعض ما أنزل الله، وفي استيفاء جميعها استيفاءُ لجميع ما أنزل الله، وهذا طبعاً على سبيل الاستحباب والأفضلية، وإلا فإنّ كلَّها شافٍ كافٍ (41) فإذا قرأ الإنسان ببعضها دون سائرها فلا إثم عليها ولا حرج بل هو مثاب مأجور؛ وإنما المقصود أن من استوفى الجميع أتى بالكمال والأفضل وأجره لا محالة سيكون أكثر.
ذكر هذا المعنى الزركشي في البرهان حين قال: «يستحقُّ استيفاءُ كلِّ حرف أثبته قارئ، قال الحيمي (الحليميُّ (42)» كما في الإتقان) (43) هذا ليكونَ قد أتى على جميع ما هو قرآنٌ، فتكون ختمة أصح من ختمة إذا ترخَّص بحذف حرف أو كلمة قرئ بهما.
ألا ترى أن صلاة كل من استوفى كل فعل امتنع عنه كانت صلاتُه أجمع من صلاة من ترخص فحذف منها ما لا يضر حذفه (44).
عاشراً: الاحتياط عند تلاوة القرآن بالأخذ باليقين أو ما يترجح صوابه من أوجه القراءات المروية، عند النسيان أو الشك.
بيَّن ذلك ابن مجاهد (45) في ما ذكره السيوطي في الإتقان من قوله: وهو «إذا شك القارئ في حرف هل هو بالتاء أو بالياء (46)»؟ فليقرأه بالياء، فإن القرآن مذكر (47)، وإن شك في حرف هل هو مهموز أو غير مهموز (48) فليترك الهمز، وإن شك في حرف هل يكون موصولاً أو مقطوعاً فليقرأ بالوصل (49)، وإن شك في حرف هل هو ممدود أو مقصور، فليقرأ بالقصر (50)، وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور (51) فليقرأ بالفتح، لأن الأول غير لحن في موضع، والثاني لحنٌ في بعض المواضع (52).
حادي عشر: اعتقاد أن لتنوع القراءات فوائدَ عديدة لولاها لحرمت الأمة منها (53).
من ذلك:
1 ـ التسهيل والتخفيف على الأمة، فإن لكل قوم لغة ولهجة يصعب عليهم التنحي عنها، وتعدد القراءات يمكنهم من اختيار ما يوافقهم.
2 ـ إن في تعددها كمالَ الإعجاز مع جمال الإيجاز، وذلك أن القراءتين في الآية الواحدة بمنزلة الآيتين، وذلك يغني عن التكرار والتطويل.
3 ـ إن تعددها ييسِّرُ حفظ القرآن بجميع حروفه وقراءاته، فآية واحدة تحفظ مع ضبط قراءتها أيسر بكثير من حفظ مجموعة آيات.
4 ـ إن تعددها حَفِظ للأمة لغتها ولهجات قبائلها بشكل ضمن معه عدم ضياع هذه اللغة التي تشرفت بجعل الله إياها وعاءً لكلامه العظيم.
5 ـ أنها كانت سبباً في جمع الأمة على لسان واحد، وذاك من أعظم عوامل الوحدة بين الأمم، ولا شك أن عزَّ الأمم مرهونٌ بتوحد أفرادها وجماعاتها على كلمة سواء.
¥