ـ وأما النحاس فقد قال: «والسلامة عند أهل الدين إن صحت القراءاتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعاً عن النبي (ص) فيأثم مَن قال بذلك، وكان رؤساء الصحابة رحمهم الله ينكرون مثل هذا» (76).
ـ أما الزركشي فقد قال عمن سماهم بأنهم «ذهبوا إلى أنه لا فضل لبعض على بعض، لأن الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه تعالى، لا تفاضل بينهما وقال بأن معنى ذلك رُوي عن مالك، وقال بأنهم احتجوا بأن الأفضل يُشعر بنقص المفضول، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيها» (77).
ـ أما أبو حيان فقد قال في بحره المحيط: «وقد تقدم لنا غير مرة أنا لا نرجّح بين القراءتين المتواترتين، ثم نقل عن ثعلب قوله: إذا اختُلف في القرآن عن السبعة لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس، فضلت الأقوى».
ثم قال: «ونعم السلف لنا أحمد بن يحيى، كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة» (78).
والذي ينبغي المصير إليه أن يقال بالتفصيل التالي:
إذا كان التفضيل بين القراءات الثابتة مؤدياً إلى تضعيف إحداها، أو مسقطاً لها، أو طاعناً فيها، فلا ينبغي أن يُختلف في منعه وأدلته واضحة.
ومن رُوِيَ عنهم خلافُ ذلك فهم أحد صنفين اثنين.
إما ماكرون كائدون كبعض المستشرقين الذين عرفوا بذلك (79).
وإما مخطئون مجانبون للصواب، كبعض المفسِّرين وبعض النحويِّين (80).
وهؤلاء منهم معذور، ومنهم من ليس كذلك، وليس الموضع موضع التفصيل في ذلك فنستغني بالإحالة عن الإطالة (81).
أما إذا كان التفضيل غير مفض لما ذكرنا، فالمسألة مختلف فيها على قولين، وبكلٍّ قال جهابذةٌ وعدول، ولكلٍّ وِجهةٌ هو مولِّيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يختلف في أن السلامة في اجتناب ذلك، على منهج الإسلام المنجي المؤصَّل بقوله (ص) (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) (82) وبقوله (ص): (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (83).
ونختم هذا التفصيل بكلام فيه تحقيقٌ ومزيد تنبيه للدكتور أحمد سعيد محمد في أطروحته النفيسة عن التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية:
قال: «بيد أنها ها هنا أمراً ينبغي التنبيه إليه، إذ طالما ندّ عن مسلك الموجهين في هذا المجال، القول بأبلغية قراءة على أخرى، أو الترجيح بينها بما يوهم في بادئ النظر بتدافع القراءات في المعنى، أو إسقاط الأخذ ببعضها، ولم يكد يسلم من ذلك إلا قليل منهم، وذلك المسلك وإن كان يجوز على تسمُّح فيما بين القراءات الشواذ، لكونها ـ كما يقولون ـ أقوى في الصناعة من جهة أقيستهم في العربية، وأقل تحرُّجاً من جهة ذوقهم في النظر إلى معانيها، فهو غير مرضيٍّ فيما بين القراءات المتواترة» (84).
خامس عشر: التزام نهج الاعتدال والاستقامة والرشد الذي عليه المهتدون، أثناء تعلّم القراءات أو تعليمها.
فقد شهدنا ساحة القراء والمقرئين تعاني من إفراط وتفريط.
ـ إما إفراط في التشدد ولزوم ما لا يلزم، وإلزام الطلاب بما لم يلزمهم به شرعٌ ولا عقل، من نحو إيقاف إجازة الخاتمين على بلوغ النهاية في الإتقان التي لم يصلها فيما نتصور إلا رسول الله (ص) ثم بعض صحابته كالذين أمر بالأخذ عنهم (85) ثم كبار القراء في الأولين والآخرين، وكذا نحو إلزام الجميع بحفظ المتون على سبيل الوجوب رغم أهمِّيَّتها (86) مع كونه مستحضراً أحسن من عشرات من حفاظها ونحو ذلك.
وهنا صورٌ أخرى لا تخفى على اللبيب ولا يحتاج فيها النبيه إلى تنبيه.
ـ وإمَّا تفريط وتساهل يتجاوز حدَّ التيسير الذي هو نهج المصطفى (ص) (87) والمهتدين من بعده، إلى حدِّ الانحلال وترك ما لا يجوزُ تركُهُ، والتسامح فيما لا يُتسامح فيه.
وكلا طرفي قصد الأمور ذميمٌ، فلنحرص جميعاً على فتح أبواب تعليم القرآن بقراءاته على مصراعيها أمام طالبيها وتيسير أمر الختم لمن طلبه على رواية أو طريق ولو بوجه واحد أو على أكثر من ذلك، على أن يُنصّ بشكل واضح على ذلك في الإجازة، وإني أرى عدمَ جواز حرمان من كان راغباً في قراءة ولو على وجهٍ واحد من جمهور الطرق والروايات المرويَّة بحجّة أنه لم يحفظ الجزرية ونحوها من شروط تعليمية لا يجوز بحال جعلُها شروطاً شرعية ملزمة لكل أحد.
ومن قديم الزمان عرف الناس أنواعاً من الإجازات، والتفاوتُ بينها واضح، وحصرُها في نوع واحد خطأ علمي، وصدّ للناس عن السير في طريق القرآن وتعلمه وتعليمه.
¥