أقول: فهذي نصوص القوم تؤكّد على أنّ ما أودعوه في سطورهم هو المعبّر القويم عن الكيفيّة الصحيحة التي تلقّوها عن مشايخهم، ويكفي في إثبات ذلك أنّ عدم ثبوت النصّ عندهم مشكلة وسبيل للنقد والتشكيك والاحتمال كما يظهر من كلام مكّي القيسي وصنيع الإمام الشاطبيّ عليه رحمة الله تعالى، وأنّ مجرّد الاعتماد على الأداء المأخوذ عن غير مرجع مسطور ومصدر موثوق قد يُفضي إلى الوهم والغلط. لذا فإنّ أهل الأداء اعتمدوا على النصوص بالدرجة الأولى إذ به يجد الأداء مصداقيّته التي ترفعه من الشكّ والاحتمال إلى اليقين والقطع.
ب - الاعتماد على الأداء:
اعتمد أئمّتنا على الأداء من ناحيتين مختلفتين من حيث الهدف والغاية:
الأولي: الاعتماد على الأداء لإدراك الهيئة الأدائيّة حال القراءة، وذلك عن طريق التلقّي والمشافهة من المشايخ، فيكون الأداء بذلك مفسّراً للنصّ من الجهة العمليّة التطبيقيّة.
الثانية: الاعتماد على الأداء استدلالا وإثباتاً لصحّة الوجه المقروء به. وهذا منوط بشروط:
الأوّل: أن يفتقد الأداء إلى النصّ، فلو ثبت بالنصّ فلا حاجة إلى الاستدلال بالأداء، وإنّما يقتصر دوره على نقل الكيفيّة الأدائيّة بالتسلسل.
الثاني: أن يكون الأداء ثابتاً في الكتب والمصادر ومشهوراً عند الأئمّة عليهم رحمة الله تعالى.
ثالثاً: أن يكون قوياً من جهة القياس.
ولنضرب أمثلة في ذلك: الأوّل: إدغام أبي عمرو {قال ربّ}، {قال ربّكم} وشبهه فإنّ أهل الأداء أجمعوا أداءً على إدغام لام {قال} في الراء مطلقاً كما ذكر الداني في كتابه الإدغام الكبير، إلاّ أنّ النصّ لم يرد في {قال رجل} و {قال رجلان}، فاعتمد الداني على الأداء المجمع عليه لإلحاق {قال رجل} و {قال رجلان} بنظائرها قياساً وتقويّة للوجه الذي لم يرد فيه النصّ، والقياس هنا مراده إدراج الألفاظ المعنيّة بالإدغام تحت نفس الأصل والقاعدة وهو إدغام {قال} في الراء. المثال الثاني: إمالة {البارئ} مع {بارئكم} فإنّها ثابتة بالأداءً المشهور عن الدوري الكسائي إلاّ أنّ النصوص وردت في لفظ {بارئكم} دون {البارئ} فألحقت الكلمة الثانية بالأولى لاتفاقهما حكماً واشتهارهما من جهة الأداء كما هو الحال في المثال الأوّل وسببه أنّ الأئمّة قد يذكرون كلمة على سبيل التمثيل فيظنّ المتأخرون أنّها ذكرت للحصر فيلتبس عليهم الأمر فيلجئون إلى القياس لإلحاق الكلمات التي لم يردّ النصّ فيها بنظائرها. المثال الثالث: جواز المدّ والقصر عند إسقاط الأولى من الهمزتين نحو {شآء أن شره}، و {السمآء أن تقع}. قال الداني: "وقد حكى أبو بكر الداجوني عن أحمد بن جبير عن أصحابه عن نافع في الهمزتين المتفقتين أنّهم يمدّون الثانية منها نحو {السمآء أن تقع}. قال: يهمزون ولا يطوّلون السماء ولا يهمزونها، وهذا نصّ منه على قصر الألف قبل الهمزة الساقطة والمليّنة، ولا أعلم أحداً من الرواة نصّ عليها بمدّ ولا بقصر غيره، وإنّما يُتلقّى الوجهان فيهما من أهل الأداء تلقّياً" (جامع البيان ص225). الشاهد قوله: "وإنّما يُتلقّى الوجهان فيهما من أهل الأداء تلقّياً" أقول: كأنّ الداني استغرب كيف انتشر الوجهان أداءً عن الأئمّة ولم يرد في ذلك إلاّ نصّ واحد يُثبت القصر دون المدّ، لذا يمكن أن نقول بأنّ الوجهين ثابتان بالأداء المشهور، وكلاهما قويّ من جهة القياس الذي يتمثّل في تبرير وجه المدّ اعتداداً بالأصل وهو وجود الهمزة الموجبة للمدّ قبل الإسقاط، وكذا تبرير القصر لثبوته بالنصّ الوحيد من جهة واعتداداً بالعارض وهو ذهاب الهمزة بالحذف الذي أوجب القصر من جهة القياس ولا مانع من الاعتداد بالعارض إن اشتهر الوجه أداءً. أقول: وهذا ما يزيدنا يقيناً أنّ القدامى من أئمّة الأداء كانوا يتحفّظون من كلّ أداء مفتقر للنصّ ولو ثبت بالتواتر والإجماع فكانوا يُلحقونه بنظيره و يدرجونه تحت أصل وثيق ليكون قويّا من جهة القياس.
قد يقول القائل: لماذا هذا التحفّظ مع ثبوت الأداء بالتواتر أو الإجماع؟
الجواب: لم يكن من المعقول عند الأئمّة أن يصل الأداء إلى مرتبة الشهرة أوالتواتر أو الإجماع دون أن يكون منصوصاً عليه من طرف من تقدّمهم من أهل الأداءً.
قد يقول القائل: لماذا لجئوا إلى القياس تقوية للأداء المجمع عليه مع أنّ الإجماع أقوى من القياس فلا حاجة له به ليتقوّى؟
الجواب: هناك فرق بين القياس المحض الذي نشأ عن مجرّد رأي لم يسبقه نصّ ولا أداء، وبين الذي كان ثابتاً بالأداء عن الأئمّة فقوي بالقياس ليندرج تحت أصل وثيق يعيد له اعتباره ويعوّضه عن الضعف الذي اعتراه بافتقاره للنصّ. لأنّ النصّ هو الذي يوثّق الأداء ويجعله معتبراً، وإذا افتقر الأداء إلى النصّ فإنّه يفتقد تلك المصداقية. ومن هنا يظهر جلياً منزلة النصوص بالنسبة للأداء عند أئمّتنا.
وسأذكر في الجزء الثاني الاعتماد على الدراية إن شاء الله تعالى
¥