تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتحه وضمّه وكسره في الآية الواحدة، لأنّه لا يعتمد على علم بالعربيّة ولا بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنّما اعتماده على حفظه وسماعه، وقد ينسى الحافظ فيضيّع السماع وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرّئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدّقاً فيُحمَل ذلك عنه، وقد نسيه وَوَهم فيه، وجسر على لزومه والإصرار عليه. أو يكون قد قرأ على من نسي وضيّع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهّم، فذلك لا يقلّد القراءة ولا يُحتجّ بنقله ... (السبعة ص46،47).

قال المرعشي رحمه الله تعالى " .... لكن لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء أكثر شيوخ الأداء، والشيخ الماهرالجامع بين الرواية والدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات أعزّ من الكبريت الأحمر، فوجب علينا أن لا نعتمد على أداء شيوخنا كلّ الاعتماد، بل نتأمّل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفنّ، ونفيس ما سمعناه من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافق فهو الحقّ، وما خالفه فالحقّ ما في الكتب " انظر بيان جهد المقلّ

أقول: لم تكن العبرة عند الأئمة كثرة الروايات والإجازات إن كانت عن غير دراية وفهم صحيح ونقد وجيه فإنّ الناقل يصير بمثابة الأنبوب الذي يمرّ فيه السيل من غير نقد ولا تمييز ولا غربلة، فيمرّ الغثاء معه ويستمرّ في مروره من غير أن يجد من يتفطن له ليحصره فيُبعده عن مجراه ليبقى السيل صافياً نقياً كما كان بالأمس. لذا فينبغي الحذر من كلّ من كثر استدلاله بالأداء من غير دراية ونقل للنصوص والآثار، وكذا الحذر من بعض المقولات الممقوتة عند أهل الدراية كقول البعض: "كل يقرأ بسنده ما دام شيخه قد أجازه على ذلك " أو قولهم: "العبرة بما اشتهر عند القراء اليوم "، ولو تأمّل القائلون لهاتين المقولتين كلام المتقدّمين لأدركوا أنّهم جانبوا الصواب كما جانبت السماء الأرض كقول مكّي والداني: " فنقل القرءان فطنة ودرايةً أحسن منه سماعاً وروايةً." وقول الداني "ومنهم من يعلمُهُ سماعاً وتقليداً، وهو الغبيّ الفهيه" وقول مكي: "ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً، فذلك الوهن الضعيف" وقول ابن مجاهد: "ومنهم من يؤدّي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلاّ الأداء لما تعلّم، لا يعرف الإعراب ولا غيره .... ". فالمقرئ الذي ينبغي أن يفزع إليه الناس هو الذي جمع بين الرواية والعلم والنقد والتمييز، قال مكي: " فمنهم من يعلمُه رواية وقياساً وتمييزاً فذلك الحاذق الفطن." وقال ابن مجاهد: "فمن حملة القرءان المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات العارف باللغات ومعاني الكلمات البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفّاظ القرءان في كلّ مصر من أمصار المسلمين".

فما بال أقوام يجعلون الأداء هو الأساس وهو المعيار الذي يوزن به القرّاء؟ وقد تجد البعض يحرص على السفر إلى المشايخ الكبار الذين توقّفوا عن الإقراء لكبر سنّهم ليقرءوا عليهم الفاتحة وأوائل البقرة بغية الإجازة، فتجتمع لديهم بهذه الكيفية عشرات الإجازات ويحسبون أنفسهم من ذوي العلم والنقد لاستغنائهم عن البحث والمطالعة بهذه الإجازات ولاعتقادهم أنّهم بلغوا الغاية بها وهيهات، بينما نجد في أئمّتنا القدامى القدوة المثاليّة في اعتنائهم بهذا العلم رواية ودراية فكانوا يجوبون الأمصار بحثاً عن النقلة الضابطين ليتلقوا عنهم القرءان ويأخذوا عنهم النصوص والعلم فصاروا بذلك نقّاداً مميّزين للرواية المشهورة المقبولة من غيرها.

كما ينبغي التنبيه أيضاً أنّ العبرة ليست في المهارة المجرّدة عن العلم لأنّ الجاهل قد يكون ماهراً بقراءته على شيخ ماهر ولكنه لا علم عنده فهو كالطفل الصغير الماهر المتقن الذي لم يصل بعد إلى مرحلة الإدراك ليكون صالحاً للتدريس والإقراء. لأجل هذا قال مكّي القيسي: " ومنهم من يعلمُهُ سماعاً وتقليداً، وهو الغبيّ الفهيه، والعلم فطنةً ودرايةً آكد منه سماعاً وروايةً." فالماهر داخل في المضمون إن تعلّم سماعاً وتقليداً، ويؤكّد ذلك قول ابن مجاهد: "ومنهم من يؤدّي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلاّ الأداء لما تعلّم ... ". فهذي نصوص القوم تبيّن أهميّة العلم على مجرّد الأداء، إذ بالعلم يُصان الأداء، ولا يمكن للأداء أن يعالج نفسه بنفسه إلاّ بالعلم، وكلام الأئمّة واضح لا غبار عليه ويردّ بشدّة على أولئك الذين يحثّون على تلقّى القرءان من المهرة المتقنين، وقد أثبتنا أنّ الإتقان والمهارة لا يكفيان للتصدّر إن كان عن جهل أو تقليد محض. بل ينبغي أن يقدّم في الإقراء العالم وإن قلّ إتقانه إلى حدّ ما على المتقن الجاهل لأنّ الثاني قد يكون مصيباً ولا يدري ومخطئاً ولا يدري، وإذا سئل لا يجيب لجهله خلافاً للثاني فإنّه وإن كان أقلّ إتقاناً من الأوّل فإنّه سيرشد الطالب إلى الصواب ويحذّره من الخطأ ويجيبه عن ما أشكل عليه بالدليل والحجّة. وبذلك يتعلّم الطالب العلم ويكتسب من خلاله ملكة تمكّنه من استدراك ما فاته من الشيخ.

فإذا رأيت الشيخ يستدلّ بالأداء على صحّة الوجه فاحذر من جوابه،

وإذا رأيته يستدلّ بأقوال المتقدّمين على صحّة الوجه فحسبك به،

وإذا رأيته يستدلّ بألأداء على كيفيّة أدائيّة مختلف فيها فينبغي الرجوع إلى المصادر لفكّ الخلاف.

لذا فالأداء لم يكن يوماً ما حجّة بذاته في صحّة الوجه وإنّما ترجمة عمليّة تطبيقيّة للمنقول، فهو يصلح لبيان الهيئة الأدائيّة لا أكثر ولا أقلّ.

أكتفي بهذا القدر والحمد لله ربّ العالمين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير