رابعا: إن كان في قراءة القرآن على تلكم المقامات مصلحة، فتركها أولى لما يترتّب عليها من مفاسد لا مفسدة، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، والمفاسد المترتبة لا حصر لها لأن الأمر يوما عن يوم في ازدياد ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ))، ومن تلكم المفاسد: أن القارئ ينبغي عليه أن يتعلم تلك المقامات الموسيقية وتلك الألحان، كي يستطيع بعد ذلك القراءة على نفس المنوال، بل قد وصل الحدّ ببعض الناس أن يستمع الأغاني ويتطرّب بها ويلتذّ بزعم أنه يتعلّم المقامات ليقرأ القرآن بها، وهذا أمر مشاهد، وواقع محسوس، لامجال لإنكاره، ولاسبيل لإغفاله، وكفى به مفسدة للقول بالمنع، ويضاف للمفاسد أيضا أنه بدعة في الدين مذمومة كما أسلفت في الأمر الأول.
خامسا: تزيين الصوت بالقرآن مستحبّ وليس بواجب، فما بالنا نتكلّف فعل المستحب، فنقع في أمر في أقلّ حالاته مكروه وشبهة.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه ? ـ: وقد صح عن النبى أنه قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن وقد فسره الشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه. مجموع الفتاوى (ج: 11 ص532).
وقال رحمه الله في الاستقامة: " ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء ولا أن يقرن به من الألحان ما يقرن بالغناء من الآلات وغيره " (1/ 246).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
الحمد لله, النَّاس مأمورون أن يقرؤوا القرآن على الوجه المشروع, كما كان يقرؤه السلف مِن الصحابة والتَّابعين لهم بإحسان, فإنَّ القراءة سنَّةٌ يأخذها الآخِرُ عن الأول, وقد تنازع النَّاس في قراءة الألحان, منهم مَن كرهها مطلقاً؛ بل حرَّمها, ومنهم مَن رخَّص فيها, وأعدل الأقوال فيها أنَّها إن كانت موافقةً لقراءة السَّلف كانت مشروعة, وإن كانت مِن البدعِ المذمومةِ نهِيَ عنها, والسَّلف كانوا يُحسِّنون القرآن بأصواتهم مِن غير أن يتكلَّفوا أوزان الغناء, مثل ما كان أبو موسى الأشعري يفعل, فقد ثبتَ في الصحيح عن النبي أنَّه قال: ((لقد أُوتِيَ هذا مزماراً مِن مزامير آل داود)) , وقال لأبي موسى الأشعري: ((مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأُ فَجَعَلْتُ أستمعُ لقراءتك)) فقال: لو علمتُ أنَّك تسمع لحَبَّرتُهُ لك تحبيراً. أي: لحسَّنتُهُ لك تحسيناً, وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا, فيقرأُ أبو موسى وهم يستمعون لقراءته, وقد قال النبي: ((زيِّنوا القرآن بأصواتكم)) , وقال: ((للهُ أشدُّ أَذَناً إلى الرَّجلِ الحَسَنِ الصَّوتِ بالقرآنِ مِن صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِهِ)) , وقال: ((ليس مِنَّا مَن لم يَتَغَنَّ بالقرآن)) , وتفسيره عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تحسينُ الصَّوتِ به, وقد فسَّره ابن عُيينة ووكيع وأبو عُبيد على الاستغناء به, فإذا حَسَّنَ الرَّجلُ صوته بالقرآن كما كان السَّلف يفعلونه - مثل أبي موسى الأشعري وغيره – فهذا حَسَنٌ, وأمَّا ما أُحدِثَ بعدَهم مِن تَكَلُّفِ القراءةِ على ألحان الغناء فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء, لأنَّه بدعة, ولأنَّ ذلك فيه تشبيهُ القرءانِ بالغناء, ولأنَّ ذلك يُورِثُ أن يبقى قلبُ القارئ مصروفاً إلى وَزْنِ اللَّفظِ بميزانِ الغناء, لا يتدبَّره ولا يعقله, وأن يَبْقَى المستمعون يُصْغُونَ إليه لأجل الصوتِ المُلَحَّنِ كما يُصْغَى إلى الغناء, لا لأجلِ استماعِ القرآن, وفهمِهِ, وتدبُّره, والانتفاع به, والله سبحانه أعلم.
(انتهى من جامع المسائل تحقيق محمد عزير شمس 3/ 301).
- وكان محمد بن الهيثم، يقول: «لأن أسمع الغناء أحب إلي من أن أسمع قراءة الألحان» (رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وصدق ابن الهيثم رحمه الله فإن سماع الغناء معصية وقراءة الألحان بدعة , والبدعة شر من المعصية , فليتأمل هذا قراءنا الذين يقرءون بهذه الألحان متفاخرين ليعلموا أين مكانهم في شرع الله عز وجل.
وقال الشيخ بكر أبو زيد: "التلحين في القراءة, تلحين الغناء والشَّعر , وهو مسقط للعدالة, ومن أسباب رد الشهادة قَضَاءً , وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع على أيدي الموالي". (كتاب بدع القراء)
والقراءة بالمقامات والألحان إما أن تكون من الدين وإما أن لا تكون من الدين , فإن لم تكن من الدين ـ وهي كذلك ـ فلا شك في بدعيتها حينئذ لأن الدين قد اكتمل بانقطاع الوحي , وإن كانت من الدين ـ وليست كذلك ـ فهل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمها؟ فإن قالوا: لم يعلمها. فما أسوأ أدبهم أيعلمون من الدين ما لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن قالوا: علمها. فلماذا لم يعلمها لأمته إن كانت من الدين؟ وهل يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الدين؟ (سبحانك هذا بهتان عظيم) أرءيتم إين تذهب البدعة بأصحابها , نسأل الله السلامة.
انتهى ملخصا من كتاب هداية الأحباب للفقير إلى الله (محمد بن عيد الشعباني) طبع بدار الصحابة ويعاد طبعه الآن بمكتبة السنة.
¥