ووجدت أحمد بن أبي عمر الأنداربي (ت475هـ) نقل في كتابه (الإيضاح في القراءات) المقطع الأول من كلام العماني في تعريف التجويد، منسوباً أبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي (ت 408هـ)، وهو:"وقال الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي –رحمه الله: التجويد أفضل من الجوهر، وأعزُّ عند العلماء من الكبريت الأحمر، وهو حلية التلاوة وزينة القراءة ... وليس بين التجويد وتركه إلا رياضة مَن تَدَبَّرَهُ (بقلبه)، وقال الله – عز وجل – مؤدباً لنبيه r وحاثّاً لأمته على الاقتداء به: چ?? ?چ يعني قَطِّعْهُ وفرِّقه تفريقاً" (20).
ولا يخفى على القارئ مقدار التطابق بين النصين، سوى ما ورد من قول الأندرابي: (تدبره بقلبه)، وهي عند العماني (تدبره بفكه)، وليس لديَّ ما يُعَيِّنِ المصدر الذي أورد فيه الخزاعي كلامه السابق، وعلى الرغم من عدم تصريح العماني بالمصدر الذي أخذ منه التعريف إلا أن تطابق النصين، وتقدُّم الخزاعي عليه، وهو من طبقه شيوخه يرجح عندي اعتماد العماني عليه في هذا المقطع من النص.
ويترجح عندي أن أبا عمرو الداني اعتمد على كلام العماني في تعريف التجويد، على الرغم من أنه لم يصرح باسمه، لأن سياق الكلام وتشابه العبارات يؤكد وجود علاقة بين كلام الرجلين، اللهم إلا أن يظهر دليل يشير إلى أن كُلاًّ من العماني والداني أخذا من مصدر واحد، وقد يكون ذلك المصدر هو كلام أبي الفضل الخزاعي، لكن المنقول من كلامه هو فقرة واحدة من ثلاث فقر يتألف منها كلام العماني، وهي تتراءى في عبارات الداني، على نحو ما يتبين من كلامه في الباب الذي خصصه لبيان معنى التجويد وحقيقة الترتيل والتحقيق.
قال أبو عمرو الداني:" واعلموا – أيَّدَكُمُ الله بتوفيقه – أن التجويد مصدر جوَّدتُ الشيء، ومعناه انتهاء الغايةِ في إتقانه، وبلوغ النهاية في تحسينه، ولذلك يقال: جوَّد فلان في كذا، إذا فعل ذلك جيداً والاسم منه الجودة.
فتجويد القرآن هو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها، وردُّ الحرف من حروف المعجم إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتمكين النطق به على حال صيغته وهيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف، وليس بين التجويد وتركه إلا رياضة من تدبره بفكه.
والترتيل مصدر رتَّل ... وهو صفة من صفات التحقيق وليس به، لأن الترتيل يكون بالهمز وتركه، والقصر لحرف المد، والتخفيف، والاختلاس، وليس ذلك في التحقيق ... " (21).
ومع أن الداني أعاد صياغة بعض العبارات وأضاف إليها بعض الكلمات إلاَّ أن الترابط بين كلام العماني والداني يظل واضحاً، وقد اشتهرت هذه النصوص عند المتأخرين منسوبة إلى الداني، وليس إلى الخزاعي أو العماني، وذلك لشهرة مؤلفات الداني واندثار مؤلفات الآخَرَيْنِ.
ولعل بيان صدى تعريف التجويد الذي ذكره العماني، وأورده الداني، عند ابن الجزري (ت833هـ) خاتمة المحققين في علم القراءات ومؤلف أشهر الكتب في هذا العلم، يغني عن تتبع ذلك عند غيره، فكثير من المؤلفين في التجويد المتأخرين وشراح المقدمة الجزرية اعتمدوا على كلام ابن الجزري في تعريف التجويد.
نقل ابن الجزري تعريف التجويد والترتيل عن كتاب التحديد للداني بنصه، وصرح في بعض فقراته باسمه، فقال:" قال الداني: ليس بين التجويد وتركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه" (22). وكذلك نقل ابن الجزري كلام الداني المذكور في كتابه النشر، ولم يخف إعجابه به، فقال:" ولله دَرُّ الحافظ أبي عمرو الداني – رحمه الله – حيث يقول:" ليس بين التجويد وتركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه". فقد صَدَق وبَصَّرَ، وأوجز في القول وما قَصَّرَ، فليس التجويد بتمضيغ اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت ... " (23).
وبلغ إعجاب ابن الجزري بذلك النص درجة كبيرة جعلته يضمنه في منظومته المشهورة بالمقدمة في ما على قارئ القرآن أن يعلمه، وتعاورته أقلام شراح الجزرية بعد ذلك بالتوضيح والتفصيل، قال ابن الجزري: (24)
27. والأخْذُ بالتجويدِ حَتْمٌ لازمُ مَن لم يجوِّدِ القرآنَ آثِمُ
28. لأنه به الإلهُ أنزلا وهكذا منه إلينا وَصَلا
29. وهو أيضاً حِلْيَةُ التلاوةِ وزينةُ الأداءِ والقراءةِ
30. وهو إعطاءُ الحروفِ حَقَّها مِن كُلِّ صفةٍ ومُسْتَحَقَّهَا
31. وردُّ كل واحدٍ لأصله واللفظُ في نظيرهِ كَمِثْلِهِ
32.مكمَّلاً من غير ما تكلُّفِ باللُّطْفِ في النطق بلا تعسُّفِ
33. وليس بَيْنَهُ وبَيْنَ تَرْكِهِ إلا رِيَاضَةُ امْرِئٍ بِفَكِّهِ
ولعل القارئ يدرك من خلال ذلك مقدار ما تركه النص الوارد في الكتاب الأوسط للعماني عن تعريف التجويد من أثرٍ في كتب التجويد المؤلفة بعده، وسواء كان ذلك النص من وضع العماني، أو نقله عن أبي الفضل الخزاعي أو غيره فإن كتاب العماني اليوم يقدِّم مستنداً تاريخياً يرجع بتعريف التجويد إلى مرحلة أقدم من عصر الداني، رحمهم الله تعالى جميعاً.
¥