في فطرته ...
وهذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، ويدعو إليه السابق واللاحق» ().
وما عبر عنه بالسابق واللاحق هو الذي يعبر عنه غيره بالسياق، والسياق هنا يرجح أن يكون الوقف كافيا على قوله تعالى: ?ولقد همت به? ويكون همُّ يوسف لم يحدث؛ لكون حدوثه معلقا على عدم رؤيته برهان ربه، فبما أنه رأى برهان ربه لم يصدر منه همٌّ، ويدل على ذلك من سابق الآية قوله سبحانه: ?قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي?، ومن لاحقها قوله جل وعز: ?واستبقا الباب? وما بعدها.
السبب السادس: عد الآي
معلوم أن مذاهب العد سبعة، ومعلوم أن بينها خلافا في أربعة وخمسين ومائتي موضع، وبعض هذه المواضع له تعلق شديد بما بعده. ولذلك أمثلة كثيرة:
منها في أول البقرة قوله تعالى: ?ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون? حيث عد أهل الشام: ?عذاب أليم? رأس آية، ولم يعدها غيرهم.
ومنها قوله تعالى في أول آل عمران: ?وأنزل التوراة والإنجيل? حيث ترك عده الشامي، وعده غيره.
فمن عد الموضعين وما ضارعهما جاز له الوقف، ومن لم يعدهما لم يقف، على الخلاف المشهور في حكم الوقف على رؤوس الآي، وليس هذا محل بسطه.
السبب السابع: علم البلاغة
عبرت بعلم البلاغة لأدخل فنون البلاغة الثلاثة؛ لأنها كلها قد يكون لها أثر في الوقف والابتداء، لكن فن المعاني أكثر تاثيرا؛ لأن مباحثه كثيرة، فمنها القصر، والفصل والوصل، والإنشاء، والإيجاز والإطناب والمساوات ...
ولقد احتفل ببيان ذلك العلامة ابن عاشور أيما احتفال، واسمع إليه يقول: «إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدى بها تلك التراكيب؛ فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبْهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها، يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وإن لم يكنه، مثاله قوله تعالى: ?هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً? [النازعات:16] فإن الوقف على قوله: ?مُوسَى? يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: ?إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ? الخ، حصل البيان، مع ما يحصل عند الوقف على كلمة ?موسى? من قرينة من قرائن الكلام؛ لأنه على سجعة الألف، مثل قوله: ?طُوىً?، ?طَغَى?، ?تَزَكَّى? الخ» ().
ثم مثل رحمه الله بمثال آخر فقال:
«وقد بينت عند تفسير قوله تعالى: ?ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ? [البقرة:2] أنك إن وقفت على كلمة ?رَيْبَ? كان من قبيل إيجاز الحذف، أي: لا ريب في أنه الكتاب، فكانت جملة ?فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ? ابتداءَ كلام، وكان مفاد حرف (في) استنزالَ طائر المعاندين، أي: إن لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت ?فِيهِ? كان من قبيل الإطناب، وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى» ().
السبب الثامن: القراءات
لهذا السبب أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، ومن أول ما ورد منه في القرآن الكريم الوقف على قوله تعالى: ?ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب? فقد ذكر العلماء أن الوقف على لفظ ?العذاب? تتعاقب عليه أنواع الوقف الثلاثة، وهي: الكافي والحسن والقبيح.
فعلى قراءة يعقوب بتاء الخطاب في ?ولو ترى? وكسر همزة أن في قوله تعالى: {إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب} يكون الوقف كافيا؛ لأن الجملة مستأنفة، وجواب لو محذوف. ومثل هذا يقال في قراءة أبي جعفر، إلا أنه يقرأ ?ولو يرى) بالغيبة.
وعلى قراء نافع وابن عامر بتاء الخطاب في ?ولو ترى? وفتح همزة أن في موضعيها: ?أَن القوة لله جميعا وأَن الله شديد العذاب? يكون الوقف حسنا، قال الإمام الداني: «لأن ?أَن? تكون منصوبة على التكرير بتقدير: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ترى، أو ترون أن القوة لله» ().
وعلى قراءة باقي العشرة بالغيب وفتح ?أن? يكون الوقف قبيحا؛ لأن ?أن? منصوبة بـ ?يرى? ().
فهذا من أوضح الأمثلة على تأثير القراءات في الوقف والابتداء، ونظائره في القرآن كثير.
السبب التاسع: القصص
¥