لا ريب أن العلم بالقصص، وابتدائها وانتهائها، وتفاصيل الأحداث التي تذكر فيها، له أثر ملموس في اختلاف العلماء في الوقف والابتداء، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ?قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ?، فقد اختلف المفسرون في مدة تيه بني إسرائيل، ومدة تحريم الأرض المقدسة عليهم، وبناء على ذلك اختلفوا في حكم الوقف على قوله تعالى: ? قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ? وقوله سبحانه: ? أَرْبَعِينَ سَنَةً?.
قال الإمام الطبري رحمه الله: «اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ (الأربعين).
فقال بعضهم: الناصب له قوله:?محرّمة?، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه، وخالفوا أمره من قوم موسى، وأبوا حَرْب الجبارين، دخولَ مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه» ().
ثم اسند لمن قال بذلك، ثم قال: «وقال آخرون: بل الناصب لِـ?الأربعين? ?يتيهون في الأرض?. قالوا: ومعنى الكلام: قال فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال: ?إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون?، وذلك أن الله عزَّ ذِكرُه حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم: ?ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون?، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ» (). ثم أسند لمن قال بذلك.
وبعد ما عرفت اختلاف أهل العلم بالقصص أنقل لك قول أهل العلم بالوقف الابتداء، فهذا الإمام أبو عمرو الداني يقول: «في ذلك وجهان من التفسير والإعراب؛ من قال: إن التحريم والتيه كان أربعين سنة، وهو قول ابن عباس والربيع والسدي، نصب ?أربعين? بـ?محرمة? على تفسير التحريم. فعلى هذا يكون الوقف على: ?يتيهون في الأرض?، وهو قول عبد الرزاق، وهو اختيار ابن جرير.
وقيل: الوقف على ?أربعين سنة?، ثم يستأنف ?يتيهون في الأرض?.
ومن قال: إن التحريم كان أبدا، وإن التيه كان أربعين سنة، وهو قول عكرمة وقتادة، نصب ?أربعين? بـ?يتيهون?. فعلى هذا يكون الوقف على: ?محرمة عليهم?. هو قول نافع ويعقوب والأخفش وأبي حاتم، وهو اختياري» ().
فتحصل من اختلاف أهل القصص ثلاثة أقوال في الوقف:
القول الأول: أن الوقف على: ?محرمة عليهم?.
القول الثاني: أن الوقف على: ?محرمة عليهم أربعين سنة? وتكون جملة ?يتيهون في الأرض? مستانفة.
القول الثالث: أن الوقف لا يجوز إلا على: ?يتيهون في الأرض?.
ومعلوم أن بين الموضع الأول والثاني تعانقا.
السبب العاشر: كمال الإعجاز
قد يكون لهذا السبب علاقة بعلم البلاغة باعتبار أن من أهم طرق إعجاز القرآن الكريم ما امتاز به من كمال الفصاحة وجمال والبلاغة وإبداع النظم، يقول الشيخ ابن عاشور رحمه الله:
«ولما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه، وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان، كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم. فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم؛ بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأسجاع النثر، وهي مراده في نظم القرآن لا محالة ... فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها «().
فهو هنا جعل الوقف على رءوس الآي مظهرا من مظاهر الإعجاز، والذي لا يقف يفرط في إظهار هذا الإعجاز للسامعين.
ويمكن التمثيل أيضا بقوله تعالى: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَاْلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا?
يقول نظام الدين النيسابوري:
«?لا يفقهون بها? (ج) () لأن العطف صحيح، ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار. وكذا الثانية؛ ولهذا كرر لفظة ?لهم? في أول كل جملة» ().
¥