فالوقف على كلمة ?بها? في مواضعها الثلاثة يضفي على المقام روعة يفوتها الوصل، ويجعل للسامع فرصة يجري فيها خياله وراء المعنى، ولذلك كررت لفظة ?بها?. وهذا لا شك أنه إعجاز لا يسيتطيعه مخلوق كائنا من كان.
السبب الحادي عشر: المذهب العقدي
من المعلوم أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصدران الرئيسان اللذان يستمد منهما المسلمون عقيدتهم، ومن المعلوم أيضا أن القرآن الكريم حمال لوجوه من المعاني والدلالات، ومحتمل لأوجه من التقديرات والتأويلات، ومن بين ما ساهم في ذلك: الوقف والابتداء؛ حيث تجد أن الاستدلال يختلف أحيانا بسبب توارد أنواع مختلفة من الوقف على موضع ما، وكثيرا ما ينزع أهل البدع والأهواء إلى الاستدلال بها على عقائدهم الفاسدة. ولذلك أمثلة في القرآن، منها:
1ـ قوله تعالى: ?الرحمن على العرش استوى?.
قال العلامة السمين الحلبي رحمه الله: «وفاعلُ ?استوى? ضميرٌ يعودُ على ?الرحمنُ?. وقيل: بل فاعلُه ?ما? الموصولةُ بعده، أي: استوى الذي له في السموات. قال أبو البقاء: (وقال بعضُ الغلاةِ: ?ما? فاعلُ ?استوى?. وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل؛ إذ يبقى قولُه ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ? كلاماً تاماً ومنه هرب) ().
قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباسب، وأنه كان يقف على لفظ ?العرش?، ثم يبتدِئُ ?استوى له ما في السموات? وهذا لا يَصِحُّ عنه» ().
فصاحب هذا الوقف دفعه مذهبه المنكر لصفة الاستواء إلى منع الوقف على ?استوى? لأنه عمل الرفع في ?ما? الموصولة بعده.
2ـ قوله تعالى: ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ?.
قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: ?مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ? نفي على أصح القولين، كقوله تعالى: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [الأحزاب: 36].
وقد اختار ابن جرير أن ?مَا? ها هنا بمعنى "الذي"، تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة. وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح. والصحيح أنها نافية، كما نقله ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وغيره أيضا، فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك؛ ولهذا قال: ?سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?، أي: من الأصنام والأنداد، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا» ().
وقال الأشموني: «والوقف على ?ويختار?، وهو مذهب أهل السنة، وترك الوقف عليه مذهب المعتزلة. والطبري من أهل السنة منع أن تكون ?ما? نافية قال: (لئلا يكون المعنى أنَّه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل) () وهذا الذي قاله ابن جرير مروي عن ابن عباسب. وليس بوقف إن جعلت {ما} موصولة في محل نصب والعائد محذوف، أي: ما كان لهم الخيرة فيه. ويكون (يختار) عاملاً فيها وكذا إن جعلت مصدرية، أي: يختار اختيارهم».
فظهر بهذا أن الصحيح أن يكون الوقف على ?ويختار? وأن تكون ?ما? نافية، والمعتزلة يمنعون هذا احتجاجا لمذهبهم.
السبب الثاني عشر: المذهب الفقهي
من أشهر الأمثلة على تأثير المذهب الفقهي في الوقف والابتدا قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فالوقف على قوله تعالى: ?وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا? مختلف فيه، قال الإمام النحاس: «فإن هذا يُعرَف التمام فيه من جهة الفقه» ().
وقال الإمام الداني: «?شهادةً أبدا? كاف على قول من قال: إن شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب، والاستثناء في قوله: ?إلا الذين تابوا? عند القائلين بذلك من الفسق لا غير ...
ومن قال: إن شهادته جائزة إذا تاب، وجعل الاستثناء من قوله: ?ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا? وما بعده، لم يقف على قوله: ?أبدا? ووقف على قوله: ?فإن الله غفور رحيم? وهذا هو الاختيار» ().
¥