تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجل، عليم بخلقه، حكيم في أمره الكوني والشرعي، فلا يشرع إلا ما يصلح الأديان والأبدان، ولا يقدر إلا ما فيه خير باعتبار الحال، أو المآل، فقد يكون الأمر شرا في الظاهر باعتبار المقدور، لا قدر الله، عز وجل، فقدره كله خير، ولكنه خير في باطنه، فيكون الشر الذي تقدمه بمنزلة الدواء المر الذي تستجلب به عافية البدن وإن عافته النفس ابتداء، (كما وقع في نازلة غزة التي كانت شرا باعتبار المقدور خيرا باعتبار القدر، فاستجلب بها من المصالح الشرعية ما استجلب وإن غفلت عنها عقولنا في ظل مرارة الخسائر)، وهذا أصل عظيم في معرفة الحكمة من خلق الشر، فإبليس مادة الشر، وأصل كل فساد في هذا العالم، قد حصل بخلقه من المصالح ما لا يعلمه إلا الخالق، عز وجل، فبه استخرجت عبوديات الجهاد: بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وبه تميز المؤمن من الكافر ........... إلخ. وقل مثل ذلك في كل شر خلقه الله، عز وجل، فهو: محنة في الظاهر منحة في الباطن.

ولا حجة لهم في قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)، فلا يقال: الله، عز وجل، خالق الحسنة، والعبد: خالق السيئة، لأن جهة الإضافة هنا مختلفة، فإضافة الحسنة إلى الرب عز وجل: إضافة خلق، فالله، عز وجل، خالقها، وإضافة السيئة إلى العبد: إضافة فعل، فالعبد هو فاعل السيئة، وإن كان الله، عز وجل، خالقها، وإنما لم تضف إليه إضافة الحسنة، تأدبا، على وزان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)، كما في حديث علي، رضي الله عنه، عند مسلم والثلاثة، فالشر ليس إليك شرعا إذ لا يتقرب إلى الله عز وجل، بالمعصية، وإن صحت نسبته إليك كونا فأنت خالقه.

فالحسنة مرادة شرعا ولذلك حسنت نسبتها إلى الله، عز وجل، والسيئة مرادة كونا، ولذلك حسنت نسبتها إلى فاعلها تأدبا مع الله، عز وجل، وإن كان هو خالقها وخالق فاعلها، فلا استقلال له بفعله من جهة الخلق، وإن كانت له إرادة مؤثرة يوقع بها أفعاله، ولكنها كما تقدم، لا تخرج عن إرادة الله عز وجل الكونية التي تخضع لها كل ذرة في هذا العالم.

والآية لا تفسر إلا بضمها إلى ما قبلها: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فكل من عند الله: كونا، فهو خالق الخير والشر، فالنسبة هنا واحدة وهي: نسبة الخلق، بخلاف النسبة في الآية الأولى فهي متعددة بتعدد جهات الإضافة على التفصيل المتقدم.

يقول الآجري رحمه الله:

"فإن اعترض بعض هؤلاء القدرية بتأويله الخطأ، فقال: قال الله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فيزعم أن السيئة من نفسه، دون أن يكون الله تعالى قضاها وقدرها عليه، قيل له: .......... إن الذي أنزلت عليه هذه الآية هو أعلم بتأويلها منك، وهو الذي بين لنا جميع ما تقدم ذكرنا له من إثبات القدر، وكذلك الصحابة الذين شاهدوا التنزيل رضي الله عنهم، هم الذين بينوا لنا ولك إثبات المقادير بكل ما هو كائن من خير وشر، وقيل: لو عقلت تأويلها لم تعارض بها، ولعلمت أن الحجة عليك لا لك فإن قال: كيف؟ قيل له: قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) أليس الله تعالى أصابه بها: خيرا كان أو شرا؟ .......... أليس قال الله تعالى: (نصيب برحمتنا من نشاء) وقال تعالى: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) وهذا في القرآن كثير، ألا ترى أن الله تعالى يخبرنا أن كل مصيبة تكون بالعباد من خير أو شر فالله يصيبهم بها، وقد كتب مصابهم في علم قد سبق، وجرى به القلم على حسب ما تقدم ذكرنا له". اهـ

بتصرف من: "الشريعة"، ص208، 209.

وعند اللالكائي، رحمه الله، من طريق:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير