محمد بن جعفر، ثنا عبيد الله بن ثابت، ثنا أحمد بن منصور، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها.
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، (3/ 254).
فكل من عند الله: الحسنة فضلا والسيئة عدلا.
والرد على أهل الاعتزال في مسألة القدر رد على النصارى إذ اقتبس المعتزلة شعبة نفي القدر من النصارى كما قد علم من تاريخ مقالات الفرق الإسلامية.
وأما القول الثاني فهو: أنها معطوفة على الرأفة والرحمة، فيكون الجعل في الآية: جعلا كونيا، فلا يكون في الآية مدح للرهبانية المبتدعة، إذ الأمر الكوني يعم: الخير والشر، الإيمان والكفر، السنة والبدعة.
وعليه يكون الاستثناء في: (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)، منقطعا، فيكون تقدير الكلام: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ولكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
فيكون في السياق: طباق بالسلب بين: "ما كتبناها" المذكورة، و: "كتبنا" المقدرة، والمختار في مثل ذلك النصب، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فالمستثنى منه: غير مشروع إذ لم يكتبه الله، عز وجل، علينا، بل هو بدعة محظورة، والمستثنى مشروع، إذ كتبه الله، عز وجل، علينا، إما وجوبا: كالفرائض، وإما استحبابا: كالنوافل.
فالأصل في ذلك: أن المستثنى ينصب إن لم يكن من جنس المستثنى منه، فلا يبدل منه إن كان الكلام تاما منفيا، كما في سياق الآية: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)، لأن الأصل في البدل أن يكون من جنس المبدل منه، فالضمير في: "كتبناها" هو المستثنى منه، فيكون الكلام تاما بذكره، والسياق منفي بـ: "ما"، والأصل في الاستثناء من الكلام التام المنفي: جواز نصب المستثنى، أو إبداله من المستثنى منه، فتقول: ما جاء الطلاب إلا محمدا، على النصب، و: ما جاء الطلاب إلا محمدٌ على الإبدال، فلا إشكال في كليهما، إذ المستثنى: "محمد" من جنس المستثنى منه: "الطلاب"، بخلاف قولك: ما جاء القوم إلا فرسا، فإنه لا يجوز فيه إلا النصب، إذ الفرس ليس من جنس القوم ليبدل منهم، فكذلك الحال في الآية إذ: المشروع المستثنى ليس من جنس غير المشروع المستثنى منه.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأما قول من قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدح للرهبانية فإن من فعل ما لم يأمر الله به بل نهاه عنه مع حسن مقصده غايته أن يثاب على قصده لا يثاب على ما نهى عنه ولا على ما ليس بواجب ولا مستحب فكيف والكلام لا يدل عليه فإن الله قال: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}. ولم يقل: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ولا قال: ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله ولو كان المراد ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله لكان منصوبا على المفعولية ولم يتقدم لفظ الفعل ليعمل فيه ولا نفي الابتداع بل أثبته لهم وإنما تقدم لفظ الكتابة فعلم أن القول الذي ذكرناه هو الصواب وأنه استثناء منقطع فتقديره: وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله فإن إرضاء الله واجب مكتوب على الخلق وذلك يكون بفعل المأمور وبترك المحظور لا بفعل ما لم يأمر بفعله وبترك ما لم ينه عن تركه والرهبانية فيها فعل ما لم يؤمر به وترك ما لم ينه عنه". اهـ
"الجواب الصحيح"، (1/ 384).
فتقدم نفي الكتابة: "ما كتبناها"، لا نفي الفعل، أو نفي الابتداع، بل السياق قد دل على ابتداعهم لها. وغاية ما يعتذر به لهم أنهم: قصدوا خيرا، ولكنهم ضلوا بجهلهم، فإن أثيب المبتدع فعلى حسن نيته لا على صحة عمله، فعمله غير مشروع ابتداء وانتهاء، كمن يحتفل بالمولد النبوي، على سبيل المثال، فإنه قد أتى ببدعة لا مستند لها من الوحي المنزل، ولكنه قد يثاب من جهة إرادته تعظيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
¥