من قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 01 - 2009, 09:14 ص]ـ
في قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)
قال بعض النحاة: "رهبانية": منصوبة على الاشتغال، فيفسره ما بعده، فيكون العامل المقدر في "رهبانية": من جنس المذكور بعده، فتقدير الكلام: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وحذف الأول لدلالة الثاني عليه، إذ هو عوض عنه، وقد تقرر في لغة العرب أنه لا يجمع بين العوض والمعوض عنه.
ويشكل على هذا الإعراب أنه يدل على أن الرهبانية إنما هي من ابتداع العبد، أي: من خلقه وإحداثه، وهذا قول القدرية النفاة الذين ينفون خلق الله، عز وجل، لأفعال العباد، على تفاوت بينهم، فمنهم من ينفي خلق الله، عز وجل، الشر، فقط، ومنهم من ينفي خلق الله، عز وجل، الخير والشر، والقول الأول عند التحقيق: مرقاة إلى القول الثاني، كما أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، كما روى عنه الآجري، رحمه الله، في "الشريعة".
ولفظه: "والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله تعالى من أن يكون قدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر". اهـ
"الشريعة"، ص201.
وإلى طرف من ذلك أشار ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب" بقوله:
"وقول الفارسي في: (ورهبانيةً ابتدعوها): إنه من باب زيداً ضربته واعترضه ابن الشجري بأن المنصوب في هذا الباب شرطُه أن يكون مختصاً ليصح رفعه بالابتداء، والمشهورُ أنه عطف على ما قبله، و "ابتدعوها": صفة، ولا بد من تقدير مضاف، أي وحُبَّ رهبانية، وإنما لم يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله، فقال: لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عز وجل". اهـ
"مغني اللبيب"، (2/ 233).
فلم يحمل أبو علي الفارسي، غفر الله له، الآية على أن الله جعل تلك الرهبانية في قلوبهم كونا، وإن لم يردها شرعا، لأنه على مذهب الاعتزال في نفي القدر، فأفعال العباد على أصول المعتزلة: من خلق العبد لا من خلق الرب.
وهذا من الأمثلة الشهيرة على تأثر بعض النحاة في تقريراتهم بخلفيتهم العقدية، فتحمل الآيات على أوجه إعرابية تؤيد ما يعتقده النحوي، وإن كانت أوجها مرجوحة أو ضعيفة.
فمن جهة الصناعة النحوية: يرد على قول أبي علي: أن من شروط الاشتغال أن يكون صالحا للابتداء، و: "رهبانية" لا تصلح للابتداء إذ هي نكرة محضة، فالصحيح أنها معطوفة على ما قبلها، وجملة: "ابتدعوها": صفة لها، كما تقدم من كلام ابن هشام رحمه الله، وإليه أشار الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، بقوله:
"الخامس، (أي من شروط الاسم المشغول عنه): كونه صالحا للابتداء به، بألا يكون نكرة محضة، فنحو قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها) ليس من باب الاشتغال، بل: (رهبانية) معطوف على ما قبله بالواو، وجملة: (ابتدعوها) صفة". اهـ
"منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، (2/ 99).
والصحيح أيضا: أن أفعال العباد: خيرها وشرها من خلق الله، عز وجل، فهو الخالق لها ولإراداتهم التي يوقعون بها أفعالهم، وهم الفاعلون بإرادات مخلوقة له، عز وجل، فلا تخرج إرادة العبد عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية، وإن جاز خروجها عن إرادته الشرعية، فإن الأمر الشرعي قد يتخلف لعدم الامتثال، بخلاف الأمر الكوني، فإنه لا راد له، فما أراده، عز وجل، كونا، واقع لا محالة، وإن لم يكن مما يحبه ويرضاه، فإنه عندئذ يكون مرادا لغيره، فإن كان شرا في نفسه كالكفر فالمصلحة المترتبة على وجوده من جهاده وظهور الإيمان به إذ: بضدها تتميز الأشياء وظهور الإيمان عليه مصداق قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، هذه المصلحة أعظم من مفسدة وجوده، وهذا عين الحكمة، والله، عز
¥