وليست الحياة في رأيه إلا فترة من سهاد مؤرق، أما الموت فهو الضجعة التي يستريح فيها الجسم ويخلد إلى الراحة الأبدية.
و في هذه الأبيات يلوذ الشاعر بالدين لينقذه من حيرته وقلقه، فيقرر البعث وينعى على من ينكرونه، وهو يقدم فكرته في أسلوب خبري تقريري، يلائم الحقائق التي يعبر عنها.
وقد يعتمد في عرض فكرته على بعض الصور البلاغية، كالكناية عن الحياة الدنيا بقوله: "دار أعمال" وعن الآخرة بقوله: "دار شقوة أو رشاد" و كتشبيهه الموت بالنوم الهانئ المريح، والحياة، بالسهر المؤرق.
(د)
وأخيرا ينتقل الشاعر إلى رثاء صاحبه أبي حمزة، فيقول:
إن الموت أصاب منه رجلا ورعا، "ومفكرا حكيما، ومجتهدا ممحصا في أمور الدين، فهو الفقيه التقي، الذي دعم بعلمه مذهب أبي حنيفة، وشاد له مجدا أكثر مما شاد للنعمان بن المنذر أمير الحيرة شاعره النابغة الذبياني بمدائحه و اعتذاراته.
وهو المحدث المدقق، الذي كان في رواية الحديث حجة تؤخذ أقواله في مأخذ الثقة واليقين.
قضى هذا الفقيه عمره في طلب العلم، و السعي وراء الحقيقة، في نسك المتعبد الزاهد الذي لا يرجو مالا ولاجاها.
ثم نزل به مرض شديد، أوفي به على النهاية التي أعجزت الطبيب، وقضت على تردد العواد، بعد أن فقدوا الأمل في شفائه.
وحانت النهاية، وبلغ اليأس أقصى مداه، وأحس الناس بقرب اللحظة الأخيرة، وشعروا أن لقاءهم للفقيد. هو آخر لقاء، وأن موعدهم معه، بعد ذلك، لن يكون إلا يوم الموعد الأكبر يوم الدين.
والشاعر في الأبيات يعبر عن فضل الفقيد وما تميز به، من تقوى، وفقه، و زهادة، وعلم واجتهاد، و هي صفات ترسم إلى حد بعيد شخصيته واضحة جلية.
و في البيت الرابع عشر إشارة تاريخية، ربط بها الشاعر بين النعمان بن المنذر، وما أسداه النابغة إليه، وبين أبي حنيفة النعمان وما أداه الفقيد من خدمة لمذهبه.
و في البيت السابع عشر كناية عن انتهاء الأجل، وذلك في قوله: "وتقضى تردد العواد".
و في البيت الأخير تحس استسلام الشاعر لحكم القضاء والقدر في هذا الجناس الذي عبر به أبلغ تعبير عن عدم اللقاء حتى تقوم الساعة، وذلك في قوله: "لا معاد حتى المعاد".
تعليق عام
اتخذ الشاعر من موت صديقه ميدانا يبث فيه أفكاره وفلسفته في شئون الحياة والموت.
وهنا تحس فرقا كبيرا بينه وبين غيره في الرثاء، فهو لا يعيش في النطاق الضيق لتجربته، ولا يقف عند سرد صفات المرثي، و لا يسرف فيها إسراف غيره من الشعراء، ولكنه ينطلق في جو رحيب، و يأتي بأحكام عامة تمس أعماق الحياة وأسرارها.
وكان طبيعيا أن تأتي عبارة الأبيات بعيدة -إلى حد كبير- عن الخيال الشارد وعن الزخرف والصنعة، لتنطلق مع نفس أبي العلاء، وعقله، في جو الحقائق التي يتلمسها، ويحاول التعبير عنها في دقة.
في ضوء هذه الأبيات تستطيع أن تعرف شخصية أبى العلاء وأسلوبه في شعره، فهو يجنح إلى الفلسفة، ويميل إلى التعمق، و تستهويه أسرار الكون، فيحاول أن يستشفها، ولكنه قد يعجز، فتحار نفسه وتضطرب.
وأسلوبه قد يخلو من الصور البلاغية أحيانا، وذلك أمر طبيعي لمن أوتي مثل تفكيره، و اتجه اتجاهه إلى تعمق الحقائق والتعبير عنها، ولكنه مع ذلك جميل، بجمال الحقيقة فيه، وبالصور المقتصدة، ودقة اللفظ ووضوحه. وقد تشرد به فلسفته حينا، ولكنه سرعان ما يعود إلى الدين يستلهمه، ويجد الراحة في رحابه.
و هو نموذج متميز بين شعراء العربية بشخصيته، واتجاهه، وفلسفته التي جعلت من الشعر أداة للتعبير عن نفس الشاعر، لا وسيلة إلى الكسب والثروة.
و كثيرا ما يبعد أسلوبه عن الصنعة، ولكنه قد يقيد نفسه بقيود يلتزمها، حتى سميت القصائد التي التزم فيها أبو العلاء ذلك باللزومي.
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[19 - 12 - 2008, 01:31 ص]ـ
بورك قلمك المعطاء أخي ورق وشوق ومفترق
أريد بيان في النواحي العروضية والبلاغية التي وردت في القصيدة؟؟
ـ[عز الدين القسام]ــــــــ[19 - 12 - 2008, 01:42 ص]ـ
أختي المبحرة في علم لا ينتهي ..
نظرتي لتلك القصيدة هو:
القصيدة غاية في التشاؤم , حيث أن ما ورد في القصيدة هي معتقد وفلسفة الشاعر في الحياة , فالمناسبات الحزينة والمفرحة عن الشاعر سيان ..
وقد ورد هذا في سيرة الشاعر , رهين المحبسين , (العمى والبيت) كما قال عن نفسه , رهنه أمر الله في سجن العمى وهو رهن نفسه في البيت , ولم يخرج من بيته طيلة حياته وترك سنه الله في الحياة ولم يتزوج , ليس زهداً لكنه اعتراضاً على الحياة ..
ليس الحزن على من رثاه هو الذي جعله متشائماُ , فهذه فلسفة حياته ..
وهو القائل:
هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد ..
وطلب كتابتها على قبره عند وفاته ...
ادعى أبو العلاء المعري أن السبب في مجيئه للحياة هو والده , وأنكر إرادة الله ..
موضوع جيد للنقاش ...
بارك الله فيك وشكراً لك.
ـ[مُبحرة في علمٍ لاينتهي]ــــــــ[19 - 12 - 2008, 01:53 ص]ـ
ماأروع تلك الكلمات الحمدلله وجدت أحد يوافقني الرأي في أبو العتاهية
¥