ومن النقاد المشهورين في العراق الدكتور إبراهيم السامرائي، وهو من الذين اهتموا بمراقبة ما يصدر من الأقلام من استعمالات مولدة جديدة لكنّه يسلك سلوك اللغويين على تخطئة مالم يرد عن العرب الأوائل لأنه لا يريد أن يسلك سلوك اللغويين القدامى الذين أنكروا المولّد ولم يسجلوه في المعجمات والمتون فكانت هذه إساءة للغة العربية وطمساً لمعالم حياتها وتطورها عبر العصور.
لقد نهج الدكتور إبراهيم السامرائي المنهج الوصفي في التصويب، فهو يختلف عن منهج الدكتور مصطفى جواد لكنهما يلتقيان بوصف لغة العرب، فهو يذكر منهجه بقوله: (غير أنه من الثابت أن التطور اللغوي محدث في مادة اللغة التي تؤلف بنيتها وكيانها وأعني بذلك الألفاظ التي تبنى فيها اللغة. هذه الألفاظ يخضعها الاستعمال فتجد فيها خصوصيات معنوية ذات ظلال دلالية جديدة يستدعيها الزمان والمكان، وليست العربية بدعاً بين اللغات ذلك أن اللغات كافة تخضع لسنّة التطور، وأن الكلمة في كثير من اللغات مادة حية يعمل فيها الزمان ويؤثر فيها وتجد فيها الحياة فتتطور وتتبدل وربما اكتسبت خصوصيات معنوية أبعدها الاستعمال عن أصلها بعداً قليلاً أو كثيراً وليست العربية بنجوة من الذي يطرأ على غيرها من اللغات وعلى هذا يتحتم على الباحثين والدارسين أن يأخذوا أنفسهم بالمنهج الوصفي.
وبذكر أن اللغة العربية الحديثة تزخر بمئات من الألفاظ الجديدة المولدة والمعربة وقد أخذت طريقها في الاستعمال وصارت مخصصة مفيدة بنوع خاص من المعنى، غير أن اللغوين مع ذلك ما زالوا مترددين في عدّ هذا الجديد من الفصيح.
ويقول / إن من الواجب علينا أن نفسح لهذا الجديد الذي قذف به المستعملون مكاناً في كتبنا اللغوية لأنه صار من مادة هذه اللغة.
ونرى الدكتور السامرائي يطبق هذا المنهج في كتابه (لغة الشعر بين جيلين) حيث يقول: إن اللغة في شعر الشعراء الجدد مادة اكتسبت طرافة وجدة وربما كان لهم دلالات جديدة لألفاظ قديمة. فقد توسعوا في المجازات والاستعمالات فالشاعر هو الذي تتطور على يديه اللغة وهو الذي يمد الألفاظ بمعاني جديدة لم تكن لها.
إن نقد الدكتور السامرائي للشعراء في الكتاب المذكور آنفاً يمثل تحليلاً لغوياً لأنه نقد الكلمات التي استعملها الشعراء في قصائدهم مراعياًَ السياق الذي وردت فيه هذه الكلمات. فنقده لم يكن نقداً للمفردة وإنما نظر إليها من خلال النصوص الشعرية آخذاً بنظر الاعتبار المؤثرات الخارجية التي دعت إلى استخدام هذه الكلمة دون غيرها كالبيئة التي يعيش فيها الشاعر مثلاً.
ففي حديثه عن لغة الزهاوي يقول:
لقد خفي على كثير من النقاد حقيقة اللغة وعلاقتها بالأسلوب وأن النقد الداخلي لابد أن يعرض لهذه الناحية ليتم للنقد الشمول والعموم. فهو يذكر أنه قرأ شعر الزهاوي في دواوينه كلها ووقف على ما أراد أن يقف عليه من خصائص لغته ومصادرها.
ويقول: لابد أن أعود للزهاوي فلأقول: ماهداني إليه إلاّ البحث في لغته فالزهاوي كما هو شائع ومعروف شاعر الفكرة يتوجه للمعنى فلا يكترث باللفظ أن يكون مصيباً في الإنابة عن الفكرة وقد عرف بالتحرر والتجديد، يعتمد في ثقافته على ما تثقف من الثقافة الشرقية والعربية الإسلامية وعلى ماجدّ من أفكار ونظريات في العلم الحديث المنقول إلى العربية ومن هذا المزيج الثقافي تكوّن فكر الزهاوي.
إن اهتمام الزهاوي بالفكرة الجديدة صرفه عن الاهتمام بالمفردة وأحكام وضعها في موضعها ولذا قلّ اهتمامه باللغة وتطلب منها أن تكون سهلة يقتضيها كيف عرضت له، ولن يقعد منها قعدة المتربص فيستميلها إليه متأتية طيعة مطمئنة. ومن هنا فالسهولة صفة واضحة في لغته، وربما بقت هذه السهولة إلى المستوى الذي لا يبعدها عن حديث الناس في تخاطبهم وليس أدل على ذلك من قوله:
لقد كنت في درب ببغداد ماشياً وبغداد فيها للمشاة دروبُ
فصادفت شيخاَ قد حنى الدهر ظهره له فوق مستن الطريق دبيبُ
عليه ثياب رثة غير أنها نظاف فلم تدنس لهن جيوبُ
تدل غضون في وسيع جبينه على أنه بين الشيوخ كئيبُ
¥