تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[ممتنعات الترجمة ... الصوت والخطاب]

ـ[حبيب مونسي]ــــــــ[18 - 01 - 2010, 05:34 م]ـ

الصوت والخطاب.

ممتنعات الترجمة.

أ. د. حبيب مونسي.

...

تمهيد:

قد لا يحسن المبدع التحدث عن المسار الذي سلكه الأثر الإبداعي للخروج في شكله النهائي أثرا مكتملا. ذلك أن المبدع من أسوء الشهود في قضية الآثار الفنية نشأة وميلادا، حتى وإن كانت شهاداتهم، تسعى جاهدة إلى تقديم صورة صادقة عما يعتور الأثر الفني منذ اختماره فكرة في خلد صاحبه إلى تجسّده وجودا مكتملا بين يدي القارئ. لأن استقراء مثل هذه الشهادات يكشف عن فجوات في السيرورة الإبداعية، تتخطاها الملاحظة الشاخصة الواعية، ولا تلامس فيها إلا المظهر الخارجي الناجز، وتغفل عن جملة المتحكمات الخفية التي تتسرب في غياب العملية الإبداعية، والتي تنفتح على جملة من العلاقات الخفية بين عناصر مختلفة، لا يشكل فيها الذاتي إلاّ طرفا ضئيلا لا يمكن الاعتداد به، ولا الاعتماد عليه مؤشرا على الشكل المنتهي.

لقد حاول "ستيفان زفيغ" " STEFAN ZWEIG" (1) منذ أربعينيات القرن الماضي، رصد مثل هذه الشهادات في فصل له بعنوان"سر العملية الإبداعية" ضمن كتابه"الرسائل الأخيرة"" DERNIERS MESSAGES" ناهجا سبيلا عكسيا للكشف عن خطوات العملية الإبداعية، معتمدا على منهج علم الإجرام في الانطلاق من الشاهد إلى الغائب. محاولا إعادة تركيب العملية الإبداعية، انطلاقا من الأثر نفسه، مرورا بالمسودات التي خلفها الفنانون في ميادين عامة: رسما، و موسيقى، وشعرا، ورواية .. على اعتبار أنها الأثر الشاهد على فعل مقترف من قبل، يحاول الوصول إلى الخطوات المعلنة، وغير المعلنة فيه. محاولة منه رسم الخطاطة التي تسلكها العملية الإبداعية، من لدن كونها فكرة غامضة تختمر في خلد الفنان، ثم تخلقها شكلا غير محدد المعالم والحدود، إلى المحاولات المتكررة التي يعانيها الفنان في إخراجها على هذه الصورة بدل تلك من الأشكال المحتملة. وينتهي "ستيفان زفيغ" أخيرا إلى أن شهادات الفنانين عن أعمالهم، هي أكثر الشهادات تضليلا للباحث المنقب، ذلك لكون جزء مهم من العملية الإبداعية يقع في غفلة الوعي. وأن الآثار المنتهية نفسها، لا تعبر بصدق، ولا تكشف عن حقيقة الخطوات التي سلكتها العملية الإبداعية. فالصورة المنتهية حقيقة أخري في تاريخ العملية نفسها.

وعندما نستعمل هذا النعت "غفلة الوعي" لا نريد منه ما يراه علماء النفس من غياب مطلق للحس، والشعور، والوعي، وإنما نشير إلى عملية تسرب خفي، تحدث في حضور الفنان وشخوصه العقلي، ولكنه لا يملك قدرة صرفها. بل تتراءى له وكأنها عملية مقصودة شاء لها أن تكون كذلك، وهي في واقع حقيقتها غير ما أراد. إن الذي أملاها في عمق الأثر عامل منفصل عن ذات الفنان الواعية، متصل بها من خلال روابط أكثر خفاء وأوغل في تركيبته النفسية. تلك الروابط التي تعطي للكتابة والإنجاز الفني سمته التمييزية التي تختص به في كل مرحلة من مراحل حياة الفنان. لأنها شروط متغيرة يتحكم فيها الظرف الذي يكتنف الفنان لحظة الإبداع.

وعندما نستعمل اصطلاح "الظرف" لا نريد منه ما يراه علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والتاريخ .. بل نجنح به صوب ما اعتقدته الشخصانية في تحديدها للفرد. ذلك أن هذه الأخيرة اعتمدت في تصورها للشخص/الذات، مسلكا يختلف عن الصورة القارة التي عرفتها الفلسفات من قبل في تعريفها للشخصية. وكان على الشخصانية أن ترى في الفرد جملة تحققاته الشخصية. ومعنى ذلك أن الشخصية ظرف يكتنف الذات حينا من الدهر، يمثل نوعا نوعيا من الوعي يقع بين أفقين. فإن تغير الوعي وتبدل إطار الأفق ليحتضن الوعي الجديد، فقد خرجت الذات من شخصية لتدخل أخرى. وإذا هي دخلت ظرفها الجديد فقد تغيرت شروط إبداعها جملة .. واستتبع ذلك فيها ومنها تلون الأداة الفنية، وتبدل استطاعاتها الإبداعية ..

ومنه كان الحكم عليها، أو لها في ظرف من ظروفها المتعددة، واستبقاء هذا الحكم، أو سحبه على باقي ظروفها الأخرى إجحاف في حقها، وظلم لتنوعها، وقتل لخصائصها، وتجميد لإمكانية التجدد والاستمرارية فيها. فإن قلنا عن فنان أنه رومنسي لأننا قرأنا بعض شعره في ظرف كان الغالب على شعره فيه روح من الرومنسية، فإننا قد حكمنا عليه حكما تأبيديا يصرف الناس عن التنوع الذي قد شهده شعره في المراحل التالية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير