والعرب قديمًا قالت: المر أمخبوء تحت لسانه.أي أنك تستطيع أن تحكم على الشخص بعد سماعك له فتصنفه في طبقة العقلاء أو السفهاء مستدلا بما يختاره من ألفاظ ينثر بها أفكاره ومعانيه
والعانية باللفظة وأنّها مقدَمة على المعنى يستوي فيه عندي الحديث عن معنى شريف أومعنى مرذول. من غيراعتبارلاتفاقنا أواختلافنا في الإيمان بفكر المتحدث. فقد يرتقي المعنى المرذول بسبب جمال اللفظة وقد يسفل المعنى الشريف بسبب رداءتها.
ولهذا أرى أن تقسمات البلاغة وتفريع الفروع قدأفسدت الذوق وخبطت في رأسه. فلايخرج منها القارئ إلاأنّه حذق القوانين فيعرفك بأنواع المحسنات ولكنه لايتذوق شيئامن هذاولايحس بجماله. فعلماء التقسم ـ عليهم رحمة الله ـ أثقلوا هذا الفن.
الرقي في الأسلوب وتهذيبه والقدرة الفائقة على التعبير الجمالي عن المعاني والأفكارلايصل إليها الأنسان عن طريق معرفة الأصول التي وضعها المقسمون.
التمكن من جمال التعبير يخضع لأمور منها. ا الموهبة التي وهبها الله لإنسان ما والذوق الشخصي, , كثرة القراءة لأفذاذ البلغاء, المران على التحليل والنظر إلى ماخلف اللفظة من المعاني. القدرة على التمييز للألفاظ وإبداء المفاضلة بين الجيد والرديء منها.
ولا غرابة حين نجدأنّ صاحب الأسلوب الجيدقدلايحسن تعريف الجناس أوالطباق أوأي نوع من هذه التقسيمات التي بليت بها البلاغة. كماهي الحال في الشعر فقد تجد متمكنًا منه قولا وإنشادا ,وقادرا على إعجاب القراء بما يقوله من الشعروهولايعرف من علم العروض بحرا واحدا. ولو ذهبنا إلى من يقول الأدب بأي من شقيه الشعري أوالنثري وهو صادر عن موهبة أصيلة وطلبنا منه أن يقوم بتحليل ماقال أوماكتب واستخراج مواطن الجمال فلا نفاجأ انّه من الممكن أن يستعصي عليه هذا.لماذا؟ لأنّه يقول عن موهبة فطرية لامستجلبة.
بل إنّ الأديب ليخفق إخفاقا ذريعا عندما يكون من همه في العمل الأدبي أن يشبه كذابكذافيكون قدأعدالمشبه والمشبه به ووجه الشبه قبل ولادة النص الأدبي.فهذاأسميه نجارًاأوخياطًا أونحوهما لأنّهما هما اللذان يرسمان الهيئة ثم يقومان بإعدادمايناسبها.
فلأديب المطبوع الفذ هوالذي تنثال عليه المعاني ثم تتزاحم لديه ألفاظها عند نضج التجربة الشعورية وبداية تدفقها.
وليس من لوازم من أتقن وحذق أقسام البديع أوالبيان أوعلم المعاني أن يصبح أديبا متفننا, وإننا لنجد أنّ أصحاب النصوص التي بلغت غاية في جمالها قد وُجدوا قبل ان يعرف الناس هذه التقسيمات التي خلطت البلاغة بالمنطق.
وهل الشأن في جمال ألأسلوب أو القدرة على التحليل فطري أم مكتسب؟ أقول إنّه من واقع قراءاتي لأساليب منوعة فإن الجمال الذي تكاد تتفق عليه الأذواق لايكون إلا فطريا وينمى عن طريق المران والتجربة؛ فصاحبه لديه هبة آلهية أقدرته على الإبانة بأسلوب راق ٍ أمّامادون هذا من الأساليب فإنّه من الممكن أن يكون مكتسبا, وهذا ماعليه عامة الكتاب والشعراء, وفي كلا المستويين لااستغناء عن المران والتجربة.
وهناك فروق بين الفصاحة والبلاغة فكل بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا فعندما نقرأمثلا في مقامات الحريري فإ نّ الفصاحة ماثلة في ألفاظها بينما تقل كثيرا بلاغتها مقارنة بفصاحتها.